القصيدة: ضؤك الداجي سندس....
بقلم الادبية الراحلة : شــــــــريفة العلـــــــوي " رحمها الله وأحسن مثواها"
أيها الأمس
أنت توأم يومي
تتكاثر في جذوري
و .....جروحي
و.......طموحي
حثيثا في دمائي
زئبق ينسل
من مقبض لمسي
صوتك اللامع
زادي وانكفائي
يترقرق من لحائي
انسيابا كقشور الرقطاء
و لجام الصمت فيضا
من وعاء الاكتفاء
رب ذا منطق
يصيب صميما
ولا سيول كلام لا يوفي
السقف ستار للهامة
وليس لقول المذمة
***
ربما خلف قاطراتك يطويني
بزورا اختفائي
ربما ضل دليل
يرسم الخطو على الشمس
زهورا ارتوائي
أيها الهامس
في صحراء قلبي احتفاء
ضوءك الداجي سندس
في ثناياه أريج يحتويني
مثل أكمة من غبار الإبريز
تتراكم في مسامات الشغاف
تترك الآمال خلفي
و ظلال كالرياح
نفحات شدوها يرتد
في موج ظنوني
والمدارات ثلوج
تذوب فيها جفوني
تشرب الغفوة خلسة
ثم تهرب بنعاسي
يكبر الظل
فتنمو دوحة السهد
بزوغا في جبيني
تتدلى كعناقيد جنوني
***
صوتها الهامس في الآفاق يبنى
من قصور البوح أسرار القباب
في كتاب الروح أقرأ
صبحه المشتاق للافشاء
وفي الغلاف غموض
يضفي للأجواء ألوان الضباب
وممرات القرنفل
تفترش هدبي غذاء ورحيقا
بها أثلام الشموع كالرضاب
و جموح الخوض في القول
كوثر في الدروب
***
يا روان ألإرواء
أحمل الوقت على كتف انتظاري
حيث كنا في مساء الأمس
وردا وعبيرا
فائح الروح
يعبئني زجاجا في العطور
وولوجا في سحابات المرور
نسكب الشهد
على أللطيف ولوعا
خمائل من سرور
خذني في بوتقة الحلم حريرا
يتقاطر حول أحداق المحار
وعصارات البرق
تطلي لحاء الأقحوان
انصباب اللوجين دوزنة الريحان
و الاوتار لحن الارجوان
يفتح الصبح نافذتي
ليسقيني عيون الازرقاق
ملهم فيروز عقدي
ومكنون جيدي
يخضب الاخضرار
لؤلؤ كالمرجان
غيهب الظامئ صبري
رابضا كالأطيار
يستحم المسك في بحره موجا
زبد مترف جرف لمآقي
في مساء الحائرات
يخبو جمر الدمعات
و رماد الصلصال
حقولا من ورود البوح
والروح مسار
في رياض السكرات
************************************************** *****
القراءة والتحليل:
كمتلقية بعين مبصرة لنص "ضوؤك الداجي سندس" دلالة خاصة- من وجهة نظري الشخصية- فهو نص يحكي عن التيه بالوطن الشفيق ... بالوطن الامان..بالوطن السكن...
وقد مثلت لنا الشاعرة الوطن مستعيضة عن لفظته المباشرة بكلمة الامس الذي تتعالى ذكرياته في ذات الشاعرة ..(بداية النص)
فالشاعرة هنا تدور بين الانتماء للوطن الام وجروح الغربة وما حدّ طموحها من جراءها.. فبينما كان ومازال يجري الوطن في دمائها فإنها تشعر به ينزف من جرح الغربة بل ويكاد يفر كالزئبق ..والخوف كل الخوف ألا تظفر بشئ مما فقدته من هذا الوطن...كتبت هذا برمزية مطلقة تفجر في عقل المتلقي تصورات عدة... بأسلوب ت تتوخاه من خلال بناء ماهيات الوطن وماهيات ذاتها بشاعرية جزلة دلفت من ذاتها ومن الطبيعة التي تنتهج ذكرياتها العالقة في مخيلتها لتعبر بألوانها الخالابة لتؤكد جمال وطنها ال مازال ساكن في حناياها
تعبر شريفة العلوي ، مخضبة بالألم، وذكرى المكان، والألفة، وتصوير معاناة المغترب بفرد أدواته التي يملكها مخاطبا بها الوطن التي يمثل في نظرها: حزنا ذابلاً ومحبطاً تمثل في لحظات الاسى بنصها الذي نراه وقد سيقت فيه العبارات على هيئة منظومات شعر نثري، مرتبة ولَعَها لوطن يدهشها اغترابها القسري عنه ، بل نراها وقد أذاعت أسرار هذه في المزاوجة بين النثر والشعر بوصفهما أهم الفنون التي تحرك في ذات المتلقي نبرة الخطاب الإنساني الذي يتحسس من خلال قرائته ويتخيل مواطن الجمال والبهاء ...ممزوجة بالحزن والاسى ...
هذا التنوع في المحاور التعبيرية...نراه جليا حين تحيل المتلقى الى ان يتوقف برهة لتفيقه وتعطيه فرصة لامكانية صحة منطقها بما تعتمد عليه من صدق التعبير باستخدامها لفظة رُبَّّ فيما يلي:
رب ذا منطق
يصيب صميما
ولا سيول كلام لا يوفي
السقف ستار للهامة
وليس لقول المذمة
أعود الى دراساتي في الشعر الحديث حيث قرأت في بعضها أن بعض شعراء الحداثة يرى ان التوع والتعبير الغير مباشر اصبح لازمة من لوازم هذا الشعر
وان التعبير المباشر يفقد الشعر خصوصيته وتاثيره العميق
اعتقد ان الغموض الذي يشتكي منه البعض في شعر المبدعة شريفة العلوي سببه غلبة الجانب يعود الى ما سبق وذكرته سابقا ...فا لجانب الفكري منمازج بالجانب العاطفي. وذلك يؤدي من وجهة نظري الى اختلاف رؤية النص من ناقد الى ناقد ومن متلفي قارئ الى آخر ...في رأيي المتواضع ايضا ..إن فهم هذه القصيدة النثر شعر ية وتذوقها لا يتاتي من اول وهلة، لذا ، لا بد من إعمال الفكر للابحار دون حروفه..
تاتي المفارقة في تصنيف الشعر الحديث عما ظل الناس يعتقدون انه لا يمت للشعر بصلة للغموض الذي يكتنفه ....، لكن !!!! ألم يكن الغموض صفة ملازمة للشعر من قديم الزمان في بعض النصوص و اختلاف في درجة هذا الغموض.لقد وصف الناس شعر ابي العلا ء المعري ، خاصة اللزوميات بالغموض، بل حتي شعر ابي تمام وصف بالغموض في زمانه.
فيما قرأت لابي تمام في احد قصائده مرة ، استعمل تعبير: ماء الملام، فقال له احد النقاد ؛هل لك ان تاتني بقطرة من ماء الملام هذا.فرد عليه ابو تمام:وهل لك ان تاتني بريشة من جناح الذل في قوله :واخفض لهما جناح الذل من الرحمة...
وكان كثيرا ما يسئل: لماذا لا تقول ما يفهم ، فيجيب؛ولماذا لا تفهم ما يقال!؟
كقولها هنا في المقطع الاول:
***
عندما نتحدث عن التجارب الشخصية في الخطاب الشعري لأي شاعر لا يهمنا عرض هذه التجارب سواء كانت وطنية أو اجتماعية أو سياسية أو ذاتية في قالب مفصل للفكرة التي يطرحها الشاعر بقدر ما يهمنا الإلماح لهذه الفكرة أو ذلك المضمون ، لأن مضمون العمل الفني لا يحمله سطر أو بيت شعر في قصيدة ، وإنما يجب أن يكون مبثوثا في جزيئات العمل الفني كله ، وهذا يعني أن المضمون الشعري لا يظهر نصا ولا ينبغي له أن يظهر بل يؤمي إلى نفسه من خلال العاطفة والصورة معا.
وهكذا جاءت الشاعرة شريفة العلوي بالابيات هنا .تتوسم الالوان والاريحية التي تحياها الشاعرة في ظلال الوطن كما تشعرها تكمل بها هذه الملحمة الرائعة
من التغني بمفاتن الوطن كما تغنى القدامي من الشعراء بضوء القمر في لياليه الداجية...
حين قالت:
غيهب الظامئ صبري
رابضا كالأطيار
يستحم المسك في بحره موجا
زبد مترف جرف المآقي
في مساء الحائرات
يخبو جمر الدمعات
و رماد الصلصال
حقولا من ورود البوح
والروح مسار
في رياض السكرات
التجربة الشعرية عند الشاعرة شريفة العلوي تستمد حين تستمدها ، من الحياة ومن معاناتها مع الغربة ، همومها الداخلية وقضايا الوطن المصيرية المتباينة ، اراها هنا تستمد من ثقافتها ، بحديث وجداني عاطفي ينبع من نفسها ومن عقلها ومن كل حواسها ودواخلها النفسية الفكرية الظاهرة والباطنة .
ومن هنا أرى الشاعرة شريفة العلوي تخرج بعملية الإبداع والخلق الفني من دوافع وجدانية تكنها لهذا الوطن بما يعتصر نفسها وعقلها كي يفجر فيها الأحاسيس والأفكار الحبيسة ، حتى تنبض تجربتها ، وقد بدت المعاناة هنا ايضا من حين خلقتها في بداية المقطع الثاني الى حين اكتماله وكمبدعة في التعبير أتت الشاعرة هنا غير آبهة بالضوضاء التي تحجب مشاعرها تجاه الوطن لأراها قد أطالت الوقوف في هذا المقطع المبدع حقا بحيث كشفت لنا عن تلك الضوضاء الشاعرية داخلها ما اضفت عليه احاسيسها الداخلية مما دفعني للبقاء امام هذه الصورة متأملة إبداعا مميزا لتلك المشاعر ما يجعل هذا الوطن بقعة غالية تستحق البقاء والخلود .
***
نقف في بعض مقاطع قصيدة الشاعرة شريفة العلوي امام صور تأملية صوفية رائعة حيث اضفت من خلالها الشاعرة شريفة العلوي وجدانا مصورا من أعماقها الروحانية يترجم حب الوطن/ الذي يسكنها فاستطاعت بذلك أن تنفد وحمولتها اللغوية العميقة والمحملة بالدفق الى نظم صوفي وسريالي جميل والذي يأخذ المتلقي الى استراحة روحانية تهدأ من ثورة المشاعر
إن حمولة هذه القصيدة الشعرية والخيالية تتوكأ على أوتاد رؤيوية فلسفية وشئ من الصوفية لشاعرة تعيش قلقها الفلسفي الأنثوي بروحانية انفعالية تضرب في جذور داخلها الإنساني ابعادا ثنائية تتلاشي في خبايا النفس المعتمة موغلة في الرمزية الشعرية بحديث بنفس يفصح عن دواخلها بالبوح عن مرارة البعد عن هذا الجمال الذي يتمتع به وطنها الذي تنتمي اليه روحيا ، تفجر الشاعرة في نفوسنا لواعج معاناتها من خلال ما سبّحت وأبدعت .
.
وفي المقطع الاخير تتوسل الشاعرة الى الوطن بلغة بسيطة للتعبير بإعلان الوفاء للوطن وإدارج الحس الأنثوي الذي يسكنها معا ...
. لذلك يمكن القول إن من خلال هذا المقطع تسعى الشاعرة إلى وصف لذاتيتها المتوحده مع الوطن استجداء له واستنجادا به كي يعيدها سيرتها الاولى حين كانت تتمرغ في مدارجه الوردية الاقحوانية ورياضه الفاتنة..
من دون شك أن الناقد الراغب في المقاربة من مقاطع النص الرائع هذا، لا مناص له من التوسل إلى كل مرجعياته المعرفية من أطر نظرية أدبية رمزية وبنيوية وسيميائية وتجريبية وحداثية وصوفية لسبر أغوار دلالات هذا النظم الذي يتكئ على خليط من الشعرية المعرفية والفلسفية النسائية المتميزة.
أشكر للشاعرة شريفة العلوي هذا القلم السامق المرتفع بشموخ لغته ، تصاويره ، فلسفته الابداعية ..وأشكر لها فرصة التفضل بمنحي شرف محاولة الابحار في نصها الادبي
" ضوؤك الداجي سندس".
لميس الامام