أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: يوم ضل العيد طريقه

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    العمر : 68
    المشاركات : 10
    المواضيع : 8
    الردود : 10
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي يوم ضل العيد طريقه

    يوم ضل العيد طريقه
    كانت جارتي امرأة فاضلة ،مرت حياتها السابقة منذ حلت بيننا حتى تجاوزت الأربعين صامتة ، تجهد نفسها في حفظ حقوق الجيران ، حتى أنها تقسو أحيانا على أبنائها لترغمهم على الالتزام بما كانت تعتقد أو تراه من بديهيات السلوك الاجتماعي الفاضل ، وكانت كما يبدو من ملامحها ، تكره من يحيد عن أخلاق الحي ، فالحي عندها هو البيت المشترك بين الجيران ، وإهمال رعايته في نظرها جناية في حق الصبايا والصبيان، وقتل لعنصر الجمال في الطفولة ، وبسبب ذلك كانت في خصام دائم مع المرحوم زوجها المهذار، وظلت - منذ أن حلت- مهابة الجانب من الجميع ، لا تستطيع أن تعرف على وجه الدقة إن كان جيرانها يتجنبون مواجهتها احتراما لها ، أو كراهية أو خوفا منها ، أما فيما يخصني فكنت أرى فيها عقل فيلسوف،ونوايا مصلح ، يعطي للقطيع معنى وجوده ، ويحدد له وجهة مساره ، وكنت احتفظ بهذا الإحساس في داخلي وأحرص على كتمانه، وأتساءل أحيانا:
    - كيف يصبح الحي عندما تغيب جارتي؟ .
    اقترب العيد، وراحت الكباش تتوافد على الحي، مجرورة ومدفوعة ، وتناثر ثغاؤها يخترق الأسوار، ويطرق الآذان ،ويثير النشاط والفرح لدى الأطفال ، فيطرد عن أذهانهم الخمول والكسل والرتابة ويحثها على الحركة و إبداع الحكايات الجميلة ، والأحداث الغريبة، أبطالها أطفال كالعصافير ، ولكن كباشها لا علاقة لها بالكباش ما عدا الأسماء والصوف الأبيض الناصع الذي يغار من بياضها بياض الثلج .
    ولكباش العيد سحرها ، فبمقدورها - أحيانا- أن تحمل الكهول والشيوخ على الندم على إسراعهم في التقدم نحو الكبر بدون مبرر معقول .
    كان الفصل خريفا، في هذه البقعة الطيبة من الأرض التي تشبه مقعد الكرسي المتأهب دائما لاستقبال المتعبين الذين يطلبون الراحة من فرط الإرهاق ، تحف أطرافها العليا غابة كثيفة الأشجار ،يجري عند أقدامها نهر يبادلها أسرار الحياة. وبحلول هذا الخريف يكون قد انقضى عامان على رحيل زوج جارتي التي يسكنني إزاءها إحساس مبهم يدفعني نحو تتبع أحوالها ، وقد لاحظت أن الحزن يغزوها بعنف مع عودة العيد كل مرة ، ويصارع كبرياءها فيهزمه، فتشحب ملامحها ، ويضطرب صوتها، وتتباطأ حركاتها،ويضعف حماسها في رعاية شؤون الحي، أرسل زوجتي لزيارتها والسؤال عن أحوالها ، وأنا أدرك أنني أفقر من في الحي وأعجز الخلق عن مساعدة غيري ، وأن المرحوم زوجها ما كان سيسأل عن أحوال أسرتي لو كنت أنا من مات ، بل ما أعتقد أنه كان سيحفظ لي حرمة ، ومع ذلك حزنت لغيابه ، فقد كان قادرا دائما على تدبير أضحية لزوجته و أبنائه، وكانوا يفرحون كل عيد ، وبفرحهم كان الفرح ينتشر في جزء من الحي توزع معظمه جارتي على جاراتها ، ومنذ أن مات تغلب الحزن عليها وعلى الحي .
    ودار بخلدي أن أسعى قدر طاقتى كي اشتري هذه السنة أضحية ، خروفا ، ثغاء خروف ،عنزة ، صياح عنزة ، شاة أو شبه شاة ، آكل وأبنائي جزءها و أتصدق بالباقي ، أطرد الحزن عن الحي ، وأغري الفرح بالبقاء فيه للحظات ، معي دنانير لا تكفي أي نعم، ولكن إذا استعطت أن استعير مثلها فقد أحقق مبتغاي.
    وبعد سعي ، وبعد خيبات ، حصلت على المبلغ ، وانتشر الثغاء في الحي ، وجاء الأطفال من كل صوب عصافير تطلب أيك الفرح ، فخرجت جارتي تتبع أطفالها تستطلع الأمر ، و أسرعت زوجتي إليها تخبرها بأن أسرتنا الفقيرة التي لم تأكل خروفا منذ وجدت في ظلمه كوخها الحقير ستضحي هذه السنة على خروف بأكمله ، وكنت أتابع ما يجري بطرفي عيني من بعيد ، فرأيت جارتي تستعيد فرحها ، وكبرياءها ، وتنتصب في وقفتها،بل تستعيد شيئا من شبابها، وتحتضن زوجتي مباركة ، داعية بالخير والستر والقبول ، فغزاني الزهو من الداخل ،وأحسست أن بإمكاني أن ازرع الفرح ،رغم أن الثمن باهظ.
    عدت إلى البيت مساء، فوجدت زوجتي قد أعدت للخروف كل ما يحتاج، ماء، وحشيشا، وحفنة من شعير، وقد خضبت جبهته بشكل ملفت للنظر، وجلست قبالته، تتملى ملامحه وهي تنهر أبناءها ليبتعدوا عنه ويتركوه يستريح.
    دام الفرح ينام ليلا ببيتي ويخرج نهارا إلى الحي ثلاثة أيام، وفي صباح اليوم الرابع ،نهضنا فلم نجد الخروف في مكانه، تصايحنا ، وجرينا أنا وزوجتي وأبنائي في كل اتجاه ، أندب حظي في صمت وتعلنه زوجتي بأعلى صوتها. أما أولادي فقد غزت ملامحهم سحنة رمادية داكنة من اليأس، ووهنت قواهم فتبعثروا في زوايا الحي كأنهم حشرات أصابها مبيد قوي المفعول.
    شاع الخبر، وراح البعض يعبرون عن أسفهم، وتضامنهم، والبعض الآخر يشيرون نحوي متهامسين:
    - أول مرة يشتري أضحية فتسرق منه.
    - وهل وجهه وجه أضحية ؟ .
    - عمياء وتبتغي الكحل
    - الهزيل إذا شبع مات.
    - الضبع أولى بالخروف منه؟.
    - أإلى هذا الحد؟ وما ذنب أبنائه المساكين ؟
    وتنوعت التعليقات ، وسرت مع الريح تخبر الغابة والنهر بالنوايا.
    الشخص الوحيد الذي كان حاله أكثر سوءا من حالنا هي جارتي، كانت الصدمة شديدة الوقع عليها، بل مدمرة، فكانت لا تقوم إلا لتجلس من شدة الوهن واضطراب الحركة، وهي تسأل الغادي والرائح : ألم تجدوا له أي أثر؟.
    يجيبها أبنائي : لا يا خالة ، لا أثر.
    أمسكت أصغر أبنائي من يده ،وسارت نحو بيتها يجللها الحزن ، وفي طريقها انعطفت نحو إسطبل متهالك لديها و تطلعت ملقية بنظرها إلى داخله، ثم أطلقت يد الولد كأنها لسعت منها ودلفت مسرعة وما لبثت أن خرجت صارخة تكاد تطير فرحا وهي تصرخ أنه هنا يستريح مجترا،إن الخروف عندي في الإسطبل لم يضع، وجرينا جميعا نحو الإسطبل ، ووجدناه مستريحا ، هادئا .يجتر في اطمئنان ، لم ينزعج ، ولم يتحرك ، قطعة الحبل في رقبته وساما يشهد على الجهد الذي بذله ليتحرر ، اقتربت منه جارتي وهي تدعوني لإلقاء القبض عليه وإعادته إلى بيت الطاعة ،وقبل أن تصدر مني استجابة، نهض من مكانه وسار نحوها ،وراح يدور حولها متمسحا بها ، فربتت هي على جبهته ورأسه وهي تلومه عن سلوكه السيئ الذي بدر منه ، وسارت به نحو بيتي يتبعها في طاعة عمياء وقد أحاط به صغارها وأصغرهم يسألها : أمي هل أهداه لنا عمي أو اشتريتيه لنا منه ؟ فتسرع هي الخطو وكأنها لم تسمع سؤال صغيرها .
    و استقبلتهما زوجتي والجمع المتنوع من الصبيان والمراهقين وراءهما محتفلا ، ولما وصلا أمام الباب استدارت حوله وأرادت دفعه إلى الداخل فأبى أن يتحرك ، فأمسكت زوجتي برقبته تريد جره إلى الداخل وجارتي تدفع مؤخرته ،وبحركة خفيفة متناسقة أفلت منهما وجرى مقهقها نحو بيت جارتي ، فتداعى الجمع المتنوع يريد إلقاء القبض عليه من جديد. عندئذ صرخت :
    - دعوه فإنه مأمور ، دعوه يختار من يريد. وأقسمت على جارتي برحمة الله للمرحوم زوجها أن تتركه لديها هدية مني لأبنائها أضحية لعيدهم، وانصرفت والحزن بداخلي ينهش أحشائي :
    - أول مرة أريد أن يفرح أبنائي بأضحية كبقية الناس. تفر مني الأضحية بإصرار إلى بيت أيتام عشية عيد الأضحى، وقادتني رجلاي بعيدا عن القرية ، سرت دون وعي على هامش الطريق العمومي دون أن أعير حركة المرور الصاخبة الخطرة اهتماما ، وكنت أسير مطأطأ الرأس أتمنى في منطقة ما بداخلي لو تدهسني شاحنة فأستريح ، لم انتبه حتى سد جسم شاحنة معبأة بالكباش الطريق في وجهي ، انحرفت أريد تجاوزها وإذا بصاحبيها يدعواني أن أمد لهما يد العون للنزع العجلة واستبدالها ففعلت بسعادة ، لأن انغماسي في العمل أنساني همومي ثم سألني أحدهما إن كنت أعرف محلا لتصليح العجلات فأجبته:
    - يا سيدي أنا طوال حياتي لم أملك حمارا، فما حاجتي إلى معرفة من يصلح عجلات الشاحنات.؟.
    انصرف الرجل وهو يبتسم، ثم ما لبث أن اطل من وراء الشاحنة مرة ثانية وسألني:
    - هل لديك أضحية؟ فابتسمت أنا هذه المرة بسمة اليائس المتحسر ، وفهم مخاطبي الحال بسرعة، فأمسكني من يدي ، يجرني خلف الشاحنة كما كانت زوجتي تجر الخروف إلي داخل كوخنا ، ثم فتح بابها وقال لي:
    - أختر كبشا يعجبك أضحية ، فهذه الكباش كلها أضاحي لسادة لم يعرفوا الغنم إلا لحما ، لم يدفعوا فيها سنتيما ، وأصحابها طلاب جاه يدفعون في سبيله بدون حساب ، والناجي منها خارج من الفساد ومثلك أولى بها وأحق، وقد أعنتنا ، وهذا أجرك .
    كان الرجل يتخير خير كباش الشاحنة وهو يتحدث، ولم ينه حديثه حتى أقلعت الشاحنة ، وتركتني واقفا على قارعة الطريق، أمسك الكبش بيدي ، وتمسك الحيرة بعقلي تعذبه : كيف ضل العيد طريقه فمر بحينا ، وحل بكوخنا؟؟!!
    الضيف حمراوي 12/12/2010

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    عزيزنا الأستاذ الضيف حمراوي ..شكراً لك وأنت تعيدنا إلي أجواء الحارات علي ايام زمان بهذه الأقصوصة الجميلة ..وشخصية تلك المرأة التي تحرص علي قيم المجتمع الفاضلة ..تذكرت عندما كنا صغاراً نسبح في النهر ونتخير الأماكن الخطرة والعميقة فيجيء رجل اسمه ( حجير) ..يصادر ملابسنا ولا يعيدها لنا إلا بعد أن يأخذ كل منا علقة ساخنة ..فساد لدينا اعتقاد بريء بأنه هو من يملك ذلك النهر ..هذه المجتمعات الصغيرة المترابطة المتسامحة هو ما نحتاجه في زماننا هذا .. شكراً مرة أخري .

  3. #3
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.67

    افتراضي

    حبكة سردية شيقة، ومشاهد أجدت ربطها فشدت القاريء حتى الخاتمة
    ومعان انسانية راقية حملتها الفكرة فأزهرت نصا قصصيا رائعا

    كانت قراءتها متعة حقيقية

    دمت مبدعا
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  4. #4
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,793
    المواضيع : 393
    الردود : 23793
    المعدل اليومي : 4.11

    افتراضي

    نص أعادنا للزمن الجميل وأجواء شعبية مليئة بالمودة نفتقدها
    ونموذج حي للمرأة المعطاءة لمن حولها .. ورسالة جليلة تضمنت الحكمة
    سرد محكم ولغة سلسة وخاتمة رائعة
    استمتعت بالقراءة لك أديبنا الفاضل
    بوركت واليراع
    ومرحبا بك في واحتك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.09

    افتراضي

    لاأعلم مالشعور الذي انتباني حين قراءتي لهذه القصة
    ربما لما فيها من رسالة عظيمة ومعاني إنسانية جميلة وقيم فاضلة
    شكرا لقلمك أخي الفاضل

  6. #6
    الصورة الرمزية لانا عبد الستار أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    العمر : 53
    المشاركات : 2,496
    المواضيع : 10
    الردود : 2496
    المعدل اليومي : 0.59

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالغني خلف الله مشاهدة المشاركة
    عزيزنا الأستاذ الضيف حمراوي ..شكراً لك وأنت تعيدنا إلي أجواء الحارات علي ايام زمان بهذه الأقصوصة الجميلة ..وشخصية تلك المرأة التي تحرص علي قيم المجتمع الفاضلة ..تذكرت عندما كنا صغاراً نسبح في النهر ونتخير الأماكن الخطرة والعميقة فيجيء رجل اسمه ( حجير) ..يصادر ملابسنا ولا يعيدها لنا إلا بعد أن يأخذ كل منا علقة ساخنة ..فساد لدينا اعتقاد بريء بأنه هو من يملك ذلك النهر ..هذه المجتمعات الصغيرة المترابطة المتسامحة هو ما نحتاجه في زماننا هذا .. شكراً مرة أخري .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    العمر : 68
    المشاركات : 10
    المواضيع : 8
    الردود : 10
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي سحر والضباع

    سحر والضباع
    كانت سحر في طفولتها وصباها مدللة، موفورة الصحة، جميلة؛ حيوية إلى حد الشقاوة أحيانا، تقضي يومها سعيدة؛ ترى كل ما حولها مشروع لعبة، من حقها أن تعبث به كيفما شاءت؛ وأينما شاءت، وتمزقه أو تحطمه أو ترميه متى ما شاءت.
    وحين نضجت كانت محط الأنظار؛ غير أنها تزوجت زواجا عاديا؛ بزوج متسامح؛ لم يكن في مستوى طموحها وتطلعاتها، ولكنه دون عيوب تشين، هادئ، واسع القلب، تغزوه أحيانا نوبات اكتئاب فينطوي على نفسه؛ لأسبوع؛ أو أسبوعين، وفي الأثناء تفرخ الشكوك في صدر سحر، فتثور؛ وتصرخ؛ وتبكي، وتقيم الدنيا ولا تقعدها دون أن تتحرك شعرة واحدة في رأس زوجها، وكأنه يعيش في عالم آخر.
    سمعت سحر بوجود ساحر بارع، يعالج الأمراض المستعصية، ويقرأ الغيب كأنه يراه، ويروض الوحوش الضارية ويتحكم في الجن، فيستدعيه إن شاء وينفيه إن شاء.
    جمعت سحر أمرها، وقصدت الساحر، بمجرد أن خرج زوجها قاصد عمله بالمدينة.
    جاء دورها، فولجت إلى غرفة الساحر، وحيت، وتربعت بين يديه.
    كانت جميلة، ممن يحرك جمالهن كل من رآه، تملاها باشتهاء، وسألها:
    - ماذا تريد الجميلة؟
    قالت: أريد إصلاح زوجي، ليغدو مركبا سهلا آمنا.
    - يضربك ، ويمسح بك البلاط ، ويسحبك من شعرك ؟
    قالت: لا
    - يمنعك من الخروج ، والتفسح ، وزيارة الأهل والصديقات والجارات؟
    قالت: لا.
    - يمنعك من اختيار ملابسك ويفرض عليك لباسا معينا أو زيا معينا؟.
    قالت: لا بل أنا أضربه، حين يغضبني، بالحذاء والشبشب على رأسه ومؤخرته، ولكنه شديد البنية ويتحمل فلا يظهر عليه أثر الضرب.
    - فلم تريدين إذن سحره ؟
    قالـت: يا سيدي هادئ وسهل القياد، ولكن أحيانا تنتابه نوبات غضب غير مفهومة ولا مبررة ، وحين يثور؛ يصير مظهره مخيفا مرعبا ، ورغم أنه يهدأ؛ أو يفر من وجهي حين أصرخ في وجهه ؛ إلا أنه كثيرا ما يطوف بخيالي حينئذ أنه يقوم بخنقي فأبقى مريضة لعدة أيام.
    - هل أفهم من قولك هذا؛ أنك تغضبين منه لأنه ليس جميلا بما فيه الكفاية؟.
    قالت وهي تضحك باحتشام: بل جميل؛ و وسيم، و ودود، وهادئ، ولكن تنتابه أحيانا حالات غضب؛ يصبح فيها كما وصفت لك، وإلا فما علة هذا الحرص عليه ؟.
    - لا تنزعجي من أسئلتي ، فهي من صميم إجراءات العلاج ، و المعلومات لهم أكثر مما هي لي ، وأنا مجرد ناقل.
    قالت: لا عليك يا سيدي، ورضاهم دين علينا، اللهم أرضيهم ورضيهم علينا، آمين. وقبلت ظهر يدها.
    - لقد فزت برضاهم ؛ ولكن في حالة زوجك ، من الصعوبة بمكان ترويضه أكثر مما هو مروض ، إلا بوجود مواد يعز الحصول عليها
    قالت ما هي؟
    قام بحركات، وتمتم بتعويذات، وأدار وجهه يمينا وتفل، ثم أدار وجهه يسارا ثم استدار إلى الخلف؛ وتفل ثلاث مرات، وألقى بشىء كان بيده التي أخرجها من عباءته، في كانون جمر كان أمامه، فارتفع الدخان، وضج الجو بروائح بخور؛ تدير الرأس وصرخ: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.
    وفتح كتابا أصفر. وتطلع فيه، ثم زوى عينه اليمنى، وترنم بلحن فيه شيء من الحزن، والرهبة، ورسم بيديه دوائر في الفضاء أعلى رأسه، ثم اهتز جسمه كله برعدة ظاهرة للعيان، كل ذلك بحركات متناسقة؛ ومنسجمة لها أثر غريب. ونظر إلى المرأة وقال:
    - إذا أردت ترويض زوجك إلى درجة الاستعباد ، فلابد أن تحضري شعر ضبع رمادي ؛ تنزعينه بيدك من رقبته ، وهو حي ، وألا تلمسه يد أخرى سوى يديك ألجميلتين ، أو يداي.
    وباقي ما سنحتاجه بعد ذلك من الخليط موجود، ومتوفر عندي، ولكن عليك أن تدفعي ثمنه مسبقا إذا صح عزمك على الذهاب في المهمة إلى نهايتها.
    قالت: ألا يوجد عقار آخر غير هذا؛ تنجز به سحرك؟
    - لا.
    ترددت قليلا فعاجلها: إذا كنت عازمة فلا تترددي، ولا تضييعي الوقت، النتيجة ستكون مضمونة وأكيدة، فلا تضييعي وقتي ...
    أدخلت يدها في صدرها، وأخرجت حافظة نقودها، وسحبت منها أربعة أوراق مالية ؛ من ذات الألف دينار ؛ ودفعتها له فأمسكها ، وسرعان ما عاد فألقها في حجرها ، وهو يردد مسرعا : وتري، وتري ، زيدي ورقة ، وتري . الله وتر يحب التوتير.
    فزادته ورقة.
    قالت: وقد أحست أنه خدرها وأخذ منها مالم تكن ترغب في دفعه بسهولة ، ألا ترى أنك تريد أن تلتهمني الضباع.؟.
    - لا تخافي - وكان قد أبصر ما بقي في حافظة نقودها - عليك فقط ؛ أن تدفعي ثمن تعويذة أعدها لك ، بعد منتصف الليل ،، لتحميك من الشر والأشرار ، والمخاطر والأضرار ، في اليابسة والبحار ، أناء الليل وأطراف النهار ، ما دمت في رحلة بحثك عن بغيتك ، على ان تبيتي الليلة هنا ، وتعليقينها مع الفجر.
    قالت: لا أستطيع المبيت لأن زوجي لا يعلم أنني جئت لزيارتك، ولا ينبغي له أن يعلم.
    - : إذن سأعدها ، وأرسلها إليك ، أو تأتين لأخذها ، وتعلقينها فجر اليوم الموالي.
    قالت: وكم أدفع فيها؟
    - هات ورقتين ، وسنضبط الحساب في العملية الكبرى.
    غادرت وفي طريقها قالت تحدث نفسها: ألا يمكن أن يكون الساحر يرغب في التخلص مني ليخلو له زوجي. فيخطفه غنيمة لإحدى قريباته؟
    ثم أليس عارا أن تأكلك الضباع يا سحر، فيقول الناس أن سحر أكلتها الضباع؟ إذا عشت أعيش وأنا أمتطى مركبا آمنا؛ وإذا مت فليقل الناس ما شاءُوا فلن تبلغني أقوالهم في بطون الضباع، ثم انفتح أمامها باب واسع رأت من خلاله الحل.
    حين وصلت إلى البيت؛ أعدت غذاءها، وتناولته، وهي تستعيد في خيالها ما ستفعله، ثم غيرت ثيابها، وعمدت إلى جحش لديها، فأوثقته وأحكمت وثاقه، ومرت بخنجر حاد على رقبته فخر على الأرض وأكملت ذبحه، تم قامت بتقطيعه، وعبأت كيسا من لحمه ثم ربطته، وانتظرت حتى استعادت رباطة جأشها.
    وحين راحت الشمس تجنح نحو المغيب من خلف قطع السحاب المتدافعة، وبدأ الغسق يتحفز ليملأ المكان، حملت كيس اللحم على ظهرها، وحملت معها بخاخ المخدر، وعصا، مستغلة هبوب رياح غربية، ودمدمة رعود كانت تهدر بعيدا في طرف الأفق، واتجهت متخفية بأشجار الزيتون نحو الكهوف؛ وسط الأحراش؛ على طرف الغابة، وهي تشكو حظها.
    كان الجو مثيرا للمشاعر، لكن الثورة التي كانت بصدرها شغلتها عما سواها.
    يا لسوء حظك يا سحر؛ كتبت عليك الاقدار أن تعيشي أزهى أيام حياتك بين الضباع؛ ضبع في البيت، وفي الدشرة ضباع، وفي الاحراش والغابات ضباع؛ وأنت تهربين من ضبع إلى أخر.
    يا لسوء حظك، فحين فكرت في إصلاح أحوالك لم تجدي عونا سوى الساحر، ولم يجد الساحر دواء آخر سوى شعر الضبع، تأخذينه من رقبته وهو حي، ما أتعسه حظا.
    وهل بمقدورك أن تروضي ضباع البشر في البيوت؛ وضباع الحيوان في الأحراش؛ أم ستكونين طعاما سائغا لإحداها؟؟
    ثم تساءلت وكأنها تتشاجر مع نفسها: لكن لماذا لا أكون كبقية النساء الخانعات القانعات القابعات؟
    لماذا أريد أن أحكم؟
    هل سمعتِ حاكما؛ أو رئيسا طرح على نفسه هذا السؤال السخيف؟ طبعا أحكم لأرضي نفسي ؛ وأشبع نزواتي فأسعد .هل يوجد هدف آخر غير ذلك يمكن أن يقتنع به عاقل. طبعا أحكم لأكون أنا الذات وغيري الوسائل والأدوات.
    لأبد أن يكون زوج المرأة رهن إشارتها، لابد أن يجتو أمامي، أن يغسل جسدي بكل رقة ورهافة حس حين أكون متعبة، وبقوة تعبر عن خشونة الرجل، حين أكون في قمة نشاطي، وأن يدلك جميع أعضائي راغبا، بشكل يحقق لي كل ما أبغيه من متعة وراحة، وان يخشى غضبي أكثر مما يخشى أي شيء آخر.
    اقتربت من الأحراش؛ حيث تكثر مغاور الضباع، فغزتها الرهبة، واجتاحها الخوف، وبدأت تتردد واضطربت مشيتها، وأخذت رجلاها تتخشبان؛ بل وتخشب جلد جسدها بكاملة تصلبت أطرافها، وجف ريقها، فراحت تتحسس أعضاءها وتصفع خديها بكفيها، وتلمست بخاخ الخدر وكأنها تعد سلاحا رادعا لتواجه به ضباع الكون قاطبة، وتسربت رائحة الضبع إلى أنفها، فأدركت أنه على مقربة منها؛ وأن لم تره، واستجمعت شجاعتها من جديد، وقالت: سحر؛ كوني المرأة الحديدية التي تتهشم على صلابتها أنياب كل الضباع.
    مسحت المنطقة بنظرة متفحصة، وأخيرا رأته هناك، كان يهم بالوقوف على قائمتيه ليتأكد من وجودها، ويحدد استراتيجية المطاردة، بينما كانت مؤخرته مازالت ملتصقة بالأرض في حالة المتربص الذي لا يرغب في ألا تكتشفه فريسته قبل أن ينقض عليها.
    تظاهرت من جهتها بأنها لم تره، بينما كانت تضغط بكل قواها على أسنانها المصطكة من شدة الخوف، ولاحظت أنه شرع في الهرولة حين بدأ يقترب، تفاقم خوفها وشعرت بالبلل يكتسح فخذيها، وبسرعة أخرجت قطع اللحم وألقتها في طريقه، ثم حملت الكيس وجرت هاربة. وصل الضبع حيث كانت قطع اللحم الطازجة ملقاة، فأقعى واحتضنها وراح يلتهمها بنهم، استراحت سحر، وتنفست الصعداء، وعادت إليها الحياة، أنتهى الضبع مما بين يديه، ورفع رأسه نحوها فلوحت له بقطعة أخرى، والقتها وابتعدت.
    قالت وهي تنتظر منه إكمال ما بين يديه، لتلقي له قطعة أخرى، وتجري مبتعدة أمامه: ما أقبح صورتك، فأنت لا تقل بشاعة وخسة عن الساحر، لا شيء فيكما في موضعه؛ فلا سير متزن مستقيم، ولا سيرة محمودة، ولا طيب ريح؛ ولا وجه حسن؛ فكلاكما خسيس، ملهوف لا يشبع، ويا ويح من وقع بين أيديكما.
    أًصبحت سحر والضبع على مقربة من مسكن الساحر، وكان الظلام قد بدأ يلون المنطقة بسواده، وبدأت عينا الضبع تلمعان كمصباحين، ثم ظهرت عيون لامعة عديدة في الخلف مقبلة.
    وضعت سحر قطع اللحم القطعة بعد الأخرى في خط ، أخر قطعة فيه في ساحة بيت الساحر، واندفعت كالسهم فدخلت عليه وهو منهمك في إعداد الخائط. لزبائنه.
    نظر إليها متعجبا نظرة من وقعت بين يديه غنيمة ثمينة لم يكن ينتظرها وقال: ألم تذهبي كما طلبت إليك؟ بدون وبر الضبع لن أستطيع أن أفعل لك شيئا. أم جئت لأخذ التميمة؟
    قالت: لا يا سيدي، لكنني لم أعرف من أي مكان في رقبة الضبع بالضبط ينبغي أن أجز الوبر المطلوب، فجئتك بالضبع نفسه، وكان الضبع قد اندفع داخلا إلى ساحة الدار منقضا على القطعة المرمية بجانب الساحر الذي بهت، ثم دخلت ضباع كانت قد جلبتها رائحة اللحم، فقالت المرأة مرعوبة: وأسرته أيضا جاءت معه، جاءت دون أن أدعوها، ولعلك في حاجة إلى وبر كثير.
    صرخ الساحر مرعوبا وضاعت منه الطريق، وراح يحاول الوصول إلى السلم والإمساك به.
    فقالت سحر: اقرأ عليها مما تحفظ، أنسنها إذا كنت ساحرا حقيقة لا أدعاء.
    ندب الساحر: وأخيرا اجتمعت كل المفاسد في بيتي.
    وأردفت من وراء شباك الباب الحديدي الذي أوصدته بإحكام: استعمل سحرك بسرعة، ثم واصلت: يبدو أنك لا تختلف عن زوجي المسكين في شيء؛ ويبدو أن الضباع يستحيل استئناسها وهي لن تكف عن دورها في تنظيف البيئة.
    ثم أخذت تولول وتلطم خديها وهي تقفز في مكانها: يا لسوء حظك يا سحر، لم تأكلك الضباع ولكنها أكلت حمارك ونقودك، وبقي زوجك على طباعه كما كان.
    الضيف حمراوي 10/04/2013
    .

  8. #8
    الصورة الرمزية نداء غريب صبري شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الشام
    المشاركات : 19,096
    المواضيع : 123
    الردود : 19096
    المعدل اليومي : 3.78

    افتراضي

    قصة حدثتنا عن المرأة العظيمة المعطاء
    بأسلوب جميل مشوّق وسرد ممتع جدا
    شكرا أخي لما قدمت لنا من فرصة القراءة الممتعة والمفيدة

    بوركت

  9. #9
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    قصّة رائعة في فكرتها عن العطاء "ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب" " وهل جزاء الإحسان غير الإحسان"
    جاذبة في سردها حتّى التّهاية
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

المواضيع المتشابهه

  1. الشعرُ ضلّ وتاهت الأقلامُ (البحر الكامل والمحيط الكامل)
    بواسطة ربيع جرارعة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 24-03-2016, 04:20 AM
  2. ما ضلّ حرفي عنك وما غوى
    بواسطة سمو الكعبي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 25-11-2008, 05:52 PM
  3. ما ضَلَّ صاحِبكم
    بواسطة محمود موسى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 07-12-2007, 05:34 PM
  4. شاعر عراقي في طريقه إلى الواحة
    بواسطة أحمد حسن محمد في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-10-2006, 08:14 PM
  5. طريقه سهلة تكسب بها قلوب الناس ...!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-02-2004, 08:48 AM