أطفالنا في ظلّ التربية الإسلامية
المقدّمة:
الحمد لله على توفيقه وهداه، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى أهل بيته أهل الطهارة والشرف والفضل والجاه.
نقدّم لك ـ عزيزنا القارئ الكريم ـ بحثنا التربوي هذا، معالجين فيه مسألة التربية الإسلاميّة التي وضع أسسها لنا الشارع المقدّس تبارك وتعالى، كما ورد في قرآنه الكريم، وعلى لسان نبيّه الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن خلال سيرته الشريفة، وسيرة أهل بيته الطيّبين الطاهرين، وعترته من ذريّته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
نهدف من وراء ذلك أن نحظى بتوفيق من الله عزّوجلّ في أن نسهم في هذه المسؤولية التربوية المقدّسة.
قال الله الحكيم في محكم كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم:
(( إقرأ وربّك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم )) . صدق الله العليّ العظيم.
وقال رسوله المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، لمّا سئل: ما حقّ ابني هذا ؟
<< تُحسن اسمه وأدبه، وضعْه موضعاً حسناً >>.
وقال أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه:
<< … وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته >>.
وقال الإمام أبوعبد الله، جعفر بن محمد الصادق صلوات الله وسلامه عليهما:
<<الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين >>.
وقد قيل:
ربّوا بنيكم علّموهم هذّبوا فتياتكم، فالعلمُ خيرُ قوامِ
وقيل كذلك:
ليس الجَمالُ بأثوابٍ تزيّنهُ إنّ الجَمالَ جَمالُ الخُلقِ والأدبِ
بقدرماهو شيّق ولذيذ، فهو مهمّ جدّاً وخطير جدّاً، ذلك هو الخوض في أهم وأخطر مجال من المجالات الاجتماعيّة في بناء الفرد والمجتمع البناء السليم القويم. فإنّ الإنسان يولد صفحة ناصعة البياض، مصقولة التركيب، محايدة التشكيلة، لا تشوبه شائبة. فهو بهذا يكون قابلاً للتشكّل والانتماء واكتساب ألوان المعارف والسلوك والممارسات.
وإن مرحلة الطفولة هي التي تعطي صورة شخصيّة الإنسان، وتشكيل ملامحه الخَلقية والخُلقية.
وقد حرصت الشريعة الإسلامية الحقّة على تربية الطفل، واهتمّت ببناء شخصيّته بناء سليماً؛ محصّنة إيّاه عن أشكال الانحراف وأنواع العقد السلوكيّة، وشتّى الأمراض النفسيّة الخطيرة والعادات السيئة القبيحة.
وعلى أساس من مبادئها الإنسانية وقيمها الصالحة، فإنّ بناء شخصيّة الطفل في الإسلام ماهو في الحقيقة إلاّ عمليّة بناء المجتمع الإسلاميّ، وتمهيد لإقامة الحياة والدولة والقانون والحضارة، وفقاً للمبادئ الإسلاميّة المباركة، تحقيقاً لسعادة الإنسان، وتحصيناً لمقوّمات المجتمع، وحفظاً لسلامة البشرية وخيرها.
وإنّ نجاح الأهداف الإسلاميّة، وسعادة الفرد، وسلامة المجتمع، تتوقّف على سلامة عمليّة التربية؛ ممّا يدعونا لأن نكرّس جانباُ كبيراً من جهودنا وممارساتنا واهتماماتنا لتربية الطفل وإعداده إعداداً سليماً، ليكون فردا صالحاً وعضواً نافعاً في المجتمع الإسلاميّ، وليكون له دوربنّاء وفعّال في الحياة، ويكون مهيّأً للعيش السليم في كنف الإسلام العظيم، منسجماً في واقعه ونزعاته الذاتية مع القانون الإسلاميّ، ونظم الحياة الإسلاميّة السائدة في مجتمع الإيمان بالله عزّوجلّ.
لقد توخّينا من إعداد هذا البحث ووضعه على شبكة الإنترنيت؛ لنكون قد ساهمنا ـ مع من يعيش في البلدان غير الإسلاميّة خاصة ـ في تربية أطفالنا التربية التي يرضاها الله عزّ وجلّ ورسوله وخلفاؤه الأئمّة الاثنا عشر المعصومون صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، ونكون بذلك مساهمين في بناء التربية الإسلاميّة الصالحة في ذلك المجتمع الذي يعيشون فيه، البعيد عن التصوّر الإسلاميّ، وكذلك في نشر الفكر والوعي الإسلاميّ في تلك المجتمعات، من خلال ذلك.
مفهوم التربية:
لقد عرّف اللغويّون وأصحاب المعاجم لفظة التربية بأنّها:
( الربّ في الأصل: التربية، وهي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام، يقال: ربّه و ربّاه و ربّيه) .
و( ربّ الولد ربّاً: وليه وتعهّده بما يغذّيه وينمّيه ويؤدّبه …).
لذا، يمكننا أن نقول إن التربية الإسلامية هي: عمليّة بناء الإنسان وتوجيهه، لتكوين شخصيّته، طبقاً لمنهج الإسلام الحنيف وأهدافه في الحياة.
فالتربية إذن تعني تنشئة الشخصيّة وتنميتهاحتّى تكتمل وتتّخذ صفتها الممّيزة لها.
أهميّة التربية الإسلاميّة:
من المسلّم به أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، غير مطبوع عليه أيّ شيء من ملامح أيّ اتّجاه أوسلوك أوتشكيلة؛ إلاّ أنّه يحمل الاستعداد التامّ لتلقّي مختلف العلوم والمعارف، وتكوين الشخصيّة، والانخراط ضمن خطّ سلوكيّ معيّن.
لذا، فإن القرآن الكريم يخاطب الإنسان ويذكّره بهده الحقيقة الثابتة، وبنعمة الاستعداد والاكتساب والتعلّم، التي أودعها الله ?زّوجلّ فيه؛ لكسب العلم والمعرفة، والاسترشاد بالهداية الإلهيّة.
قال عز ّوجلّ:
(( والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون )) .
وأميرالمؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه يترجم هذا الخطاب الإلهيّ العلميّ السامي بقوله:
<< … وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته >>.
وقد شرح العلاّمة الحلّي رضوان الله تعالى عليه مراحل تكوّن المعرفة لدى الطفل، فقال:
( إعلم أنّ الله خلق النفس الإنسانيّة في بداية فطرتها، خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة، وذلك مشاهد في حال الأطفال. ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحسّاسة، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته لمس ما يدركه من الملموسات، ويميّز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرّج بين أبوبه وغيرهما) .
وبهذا الترتيب يتدرّج في التعرّف إلى الطعوم والمذاقات وباقي المحسوسات وإلى إدراك جميع ما يتعلّق بها، فهو يعرف ثدي أمّه، نظراً لعلاقته الحياتية به وحاجته إليه في التغذّي، فنراه يناغيه ويلاعبه ويداعبه أثناء رضاعته، ثمّ يتعرّف إلى أمّه قبل غيرها ممّن يحيطون به، وهكذا.
ثمّ إنّ هذا الطفل يزداد فطنة وذكاء، فينتقل من إحساسه بالأمور الجزئية إلى معرفة الأمور الكليّة، مثل التوافق والتباين والأنداد والأضداد؛ فيعقل الأمور الكليّة الضروريّة بواسطة إدراك المحسوسات الجزئيّة، ثمّ إذا استكمل الاستدلال، وتفطّن بمواضع الجدال؛ أدرك بواسطة العلوم الضروريّة العلوم الكسبيّة.
فظهرمن هذا أن العلوم المكتسبة فرع على العلوم الكلّية الضروريّة،
والعلوم الكلّية الضروريّة فرع على المحسوسات الجزئيّة.
لذا، يتعيّن في ظلّ التعاليم الإسلاميّة على الأبوين التكليف في إعداد الطفل وتربيته وتعليمه منذ نشأته الأولى.
ومن الجانب الآخر، فإنّ الطفل ـ كإنسان ـ وهبه الله عز ّوجلّ العقل والذكاء، وخلق فيه ملكة التعلّم والاكتساب و التلقّي، فهو منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا يبدأ عن طريق الحسّ بالتعلّم واكتساب السلوك والآداب والأخلاق، ومختلف العادات، وكيفيّة التعامل مع الآخرين.
فنجد أنّ محيط الأسرة وطريقة تعاملها وطرز تفكيرها، كلّ ذلك يؤثّر تأثيراً مباشراً وعميقاً في تكوين شخصيّة الطفل، ويتحدّد قالبها الذي سوف يتّخذه الطفل مستقبلاً، سواء كانت تلك العائلة سليمة ومؤمنة ومستقيمة وملتزمة بتعاليم الإسلام السامية ، فيخرج الطفل فرداً صالحاً وإنساناً طيّباً وسعيداً، أو كانت من العوائل المتحلّلة المنحطة، فتُخرج طفلها إلى المجتمع فرداً فاسداً مجرماً شقيّاً.
لذا جاء في الحديث النبويّ الشريف:
<< ما من مولود يولد إلاّ على هذه الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه >>.
وقد أثبتت التجارب والدراسات العلميّة التي أجراها الباحثون والمحقّقون في مجال البحوث والتحقيقات التربويّة والنفسيّة؛ أن للتربية أثراً كبيراً ومباشراً في تكوين شخصيّة الفرد، وأثرها كذلك في المجتمع.
وقد تبيّن تطابق هذه البحوث والتحقيقات مع قواعد الرسالة الإسلاميّة المباركة وقوانينها التربويّة العلميّة، وجاءت هذه تأييداً ومصداقاً للتعاليم الإسلاميّة الحقّة في مجال التربية والتعليم؛ حيث تقول معظم الدراسات التي أجريت في العالمين الإسلاميّ والأوربي بأنّ الطفل في سنيّ عمره الأولى تتحدّد شخصيّته الإنسانيّة، وتُنمّى مواهبه الفرديّة، وتتكوّن لديه ردود فعل على الظواهر الخارجيّة، عن طريق احتكاكه بالمحيط الذي يعيش ويترعرع فيه، وتكتمل هذه الردود وتأخذ قالبها الثابت في حينه: ( من شبّ على شيء شاب عليه).
ومسلّم أنّ للقيم السلوكيّة السائدة في محيط العائلة الذي يعيش الطفل فيه ـ سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة ـ دورا*ً خطيراً ومؤثّراً في تأطير طريقة تعامله مع الآخرين.
وقد أثبتت الأبحاث التربويّة كذلك أنّ تكوّن شخصيّة الطفل منذ صغر سنّه يؤثّر تأثيراً مباشراً قوّياً في نظرته إلى نفسه بالذات، ماعاش في هذه الحياة الدنيا، فإن لمس الرعاية والمحبّة والعاطفة السليمة والحنان والاهتمام والتقدير والتشجيع والمكافأة بين أفراد أسرته؛ أشرقت صورته في نفسه و تطيّبت، ونمت قدراته ومواهبه وإبداعاته و ابتكاراته، و أصبح يشعر بإشراقة مضيئة تشعّ من ذات شخصيّته فتؤهّله للقيام بدور فعّال في حياته العائليّة، ومن ثمّ المدرسية والمهنيّة فالاجتماعيّة.
لقد أثبتت هذه الدراسات و التجارب أن50% من ذكاء الأولاد البالغين السابعة عشرة من العمر؛ يتكوّن بين فترة الجنين وسنّه الرابعة، وأنّ 50% من المكتساب العلميّة لدى البالغين من العمر ثمانية عشر عاماً تتكوّن ابتداءً من سنّ التاسعة،وأنّ 33% من استعدادات الولد الذهنيّة والسلوكيّة والإقداميّة والعاطفيّة يمكن معرفتها في السن الثانية من عمره، وتتوضح أكثرفي السنّ الخامسة بنسبة50 %.
ودراسة أخرى تضيف على هذا، فتقول إنّ نوعيّة اللغة التي يخاطب الأهل أولادهم بها تؤثّر إلى حدّ كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب، وللقيم السلوكيّة لديهم ولمفاهيمها، ودورهم [ في البيت والمجتمع ] وأخلاقيّتهم.
لذا، فإنّ الإسلام العظيم قد بدأ عنايته الفائقة بالطفل منذ لحظات ولادته الأولى، فدعا إلى تلقينه الشهادتين المقدّستين،وتعظيم الله عزّ وجلّ، والصلاة لذكره جلّ وعلا؛ لكي تبدأ شخصيّته بالتشكّل والتكوّن الإيمانيّ، والاستقامة السلوكيّة، والتعامل الصحيح ، ولكي تتثبّت القاعدة الفكريّة الصحيحة في عقله ونفسه. فقد روي عن الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عن جدّه الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليهم أنه قال:
<< من وُلد له مولود فليؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليُقم في أذنه اليسرى؛ فإن إقامتها عصمة من الشيطان الرجيم >>.
ولعلّ أحقّ و أثبت دليل على تحديد مسؤوليّة الوالدين في مسألة تربية أولادهم، وأهميّة التربية في الإسلام هو قوله عزّوجلّ:
(( يا أيّها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة …)).
إنّ علماء النفس و التربية يرون أنّ المحيط الذي يعيش الطفل فيه هو الذي يحدّد معالم شخصيّته مستقبلاً بدءاً بالوالدين؛ فمحيط العائلة فالمجتمع الكبير. فهذا كونفوشيوس فيلسوف الصين الكبير(551 ق.م ـ 478 ق.م) يقول في شأن أهميّة التربية وضرورتها من أجل حياة معتدلة سويّة:
( الطبيعة هي ما منحتنا إيّاه الآلهة، السير بمقتضى شروط الطبيعة هو السير في صراط الواجب، وإدارة هذا الصراط و تنظيمه هو القصد من التربية والتعليم ) .
تأثير المحيط على تربية الأطفال:
إن البيئة والمحيط الذي يعيش فيهما الطفل لهما تأثيرعميق وفعّال في حياته وتكوّن شخصيّته، فالإنسان منذ نعومة أظفاره يتأثّر وينفعل بما يجري حوله من ممارسات، فهو يكتسب مزاجه وأخلاقه وممارساته و طرز تفكيره من ذلك المحيط أو تلك البيئة.
وقد تبيّن أنّ للوالدين ولسلوك العائلة، ووضعيّة الطفل فيها، دوراً كبيراً في تحديد شخصيّته و صقلها وبلورتها وتحديد معالمها، كما أن للمعلّم أيضاً وكذا الأصدقاء، والمجتمع ووسائله الفكريّة والإعلامّية، وعاداته وأسلوب حياته؛ أثر مباشر كبيرعلى سلوك الطفل وكيفيّة تفكيره، إلاّ أنّنا نلاحظ ـ انطلاقاً من فلسفة الإسلام العامّة، والتربويّة خاصّة ـ أنْ ليس لعالم الطفل الخارجي بمختلف مصادره، ومع شدّة تأثيره؛ القدرة كلّيّاً وبصورة قاطعة و إلى الأبد، في تحديد معالم شخصيّة الإنسان، ويؤطّر مواقفه، بل للإرادة الذاتيّة القويّة دور فعّال وبنّاء في تحديد سلوكه ومعتقده وممارساته؛ لأنّ الإنسان في ظلّ التعاليم الإسلاميّة الحقّة، ومعرفته لما فيه الخير والصلاح والسعادة له ولغيره، يعمل به، ومعرفته لما فيه الشرّ والفساد والشقاء له ولغيره، يتجنّبه؛ لوأنّه اعتقد والتزم بتعاليم الشريعة الإسلاميّة الخالدة، وعمل بعمل المعروف وانتهى عن فعل المنكر…
من هنا جاء التأكيد في التربية الإسلاميّة على القيم والأخلاق والمبادئ، كحقائق مستقلّة متعالية على تأثيرات الواقع؛ ليسلم هو بذلك، وليسلم المجتمع الذي يعيش فيه من انحرافاته وآثاره السلبيّة.
لذا، صار الاهتمام بتقويم الإرادة لدى الفرد بالغ الأهميّة؛ لما للإرادة من دور عظيم في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم. فبالإرادة الذاتيّة المحصّنة من تأثيرات المحيط، والثابتة على القيم والمبادئ السامية على واقع العالم المحيط بالإنسان؛ ظهر القادة والمفكّرون والمصلحون الذين دعوا الناس إلى الثورة ضدّ الواقع المنحرف، لتغييره.
وهذا التقويم الواقعي السليم لمنطق التأريخ، الذي يعطي الإنسان قيمته الحقيقيّة في هذا العالم الرحب، ويضعه في محلّه المناسب له؛ هو بعينه تقويم التشريع الإسلاميّ للإنسان . وقد جاء صريحاً في القرآن الكريم:
(( بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره )) .
والرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول:
<< لا تكن إمّعة: تقول أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت؛ بل وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس تُحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم >>.
إذن، نستنتج ممّا سبق أنّ للمحيط الطبيعي للفرد وللمحيط الاجتماعيّ
العام تأثيراً عميقاً على تكوين شخصيّة الطفل وتحديد سلوكه:
1ـ المحيط الطبيعيّ:
وفيه أن القاعدة الأساسيّة في تربية الطفل تتوقّف على أساس من التفهّم والطمأنينة والاهتمام بالطبيعة، والعمل على إبعاد المخاوف عنه، وتوجيهه إلى مواطن السرور والأمان والطمأنينة في هذا العالم؛ لصيانته من ردود الفعل النفسيّة التي تؤلمه وتضرّ به، هذا من جهة، ومن جهة ثانية جعله يتوجّه نحو الطبيعة، و يستلهم منها معاني الحبّ والبهجة والجمال والأمن، ويتشوّق إلى البحث والمعرفة والاكتشاف.
قال عز ّوجلّ:
(( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء )) .
ومن الواضح أنّ الطفل يتأثر بالمحيط وينفعل به، فيتساءل كثيراً عمّا يراه و يسمعه في هذا العالم ممّا يثير إعجابه و دهشته، ويلفت نظره، فصوت الرعد و وهج البرق و نباح الكلب و دويّ الريح وسعة البحر ووحشة الظلام، كلّها تثير مخاوفه، وتبعث في نفسه القلق والاضطراب والخوف، وتجعله ينظر إليها بحذر وتردّد، ويعدّها في عداد العدوّ والخطر، فيتطوّر عنده هذا الشعور، و يأخذ أشكالاً مختلفة، وتتطوّر هذه التحوّلات مع نموّ الطفل، فتترسّب حالات الخوف في اللاشعور، فتنمو شخصيّته على القلق و التردّد والاضطراب والخوف والجبن.
وكما أنّ لهذه الظواهر الطبيعيّة وأمثالها هذا الأثر السلبيّ الخطر في نفسيّة الطفل؛ فإنّ منها ماله تأثير كبير أيضاً وإيجابيّ نافع في نفسه، فنجده يفرح ويسرّ بمنظر الماء والمطر، وتمتلئ نفسه سروراً وارتياحاً بمشاهدة الحقول والحدائق الجميلة، ويأنس بسماع صوت الطيور، وترتاح نفسه باللعب بالماء والتراب والطين.
فيجب في كلتا الحالتين التعامل معه، وتدريبه على مواجهة ما يخاف منه، وكيفيّة معالجته، فنطمئنه، ونعوّده الثقة في نفسه والاعتماد عليها.
وممّا هو مهمّ جدّاً في دور التربية هو أن نجيب الطفل ـ بكل هدوء وبساطة وارتياح وحبّ ورحابة صدر ـ عن جميع تساؤلاته حول المطر و الشمس والقمر والنجوم والبحر والظلام وصوت الرعد و… الخ؛ بما يطمئنه و يريح نفسه؛ فننمّي بذلك فيه روح الإقدام وحبّ الاستطلاع، وحبّ الطبيعة وما فيها من خلق الله عزّوجلّ البديع العجيب.. لينشدّ إليها، ويعرف موقعه فيها، و يدرك عظمة خالقه ، ومواطن القدرة و الإبداع، و دوره فيها؛ فينشأ فرداً سليماً نافعاً ذا إرادة تجنّبه الانحراف وفعل الشرّ، وذا عزيمة على الإقدام على فعل الخير، ويتركّز في نفسه مفهوم علميّ وعقائديّ مهم بأنّ الطبيعة بما فيها هي من صنع الله عزّوجلّ أوّلاً، ثم أنّ الله سخّرها لخدمة الإنسان، فيتصرّف فيها ويستفيد منها، ويكيّف طاقاته ويستغلّها بما ينفعه وينفع الناس، وقد قال جلّ وعلا:
(( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً )) .
(( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)) .
وهذا التسخير الإلهيّ ما هو إلاّ تمكين للإنسان من تكييف قوى الطبيعة واستثمارها لصالحه؛ وفق ما تقتضيه المفاهيم الإنسانيّة التي عالجها من خلال علاقته بالطبيعة، مثل مفاهيم الحبّ والخير والجمال والأمن والسلام والاحترام، وغيرها.
( يتبع )