كانَ كلّ صباحٍ يحزمُ أمرَه منتظرًا رفيقَ دربِه يوصلَه إلى حيث
مكانِ عَمَلهِ ، حتى إذا أقلّهُ ذاتَ يومٍ ، وإذ هُـما وسَطَ الطريقِ
أوقَـفَـتْـهما " سيطرةٌ " للجيشِ ، فبادرَ أحَـدُ الجنودِ بسؤالِهِ المُعتاد :
من أين جئتما ؟ وإلى أين وجهتكما ؟ .
حتى إذا علِمَ أنّهما من مدينةِ ( ___ ) ، قال : إرجعــا من حيث
جـئـتـما فالطريق مغلقٌ ولا عبورٌ لأحـدٍ وإلى أجــلٍ غيرِ مسمّى .
آبَ هوَ ورفيقُه إلى ضيْعتِه وهو يُدندنُ مع نفسه " تيتي تيتي مثل
ما رحتي جيتي " !!
أخذ ركــنـًا في بيته متفكّرًا مستذكــرًا متساءلاً مع نفسه ، فالجميع نائمون ،
إلامَ نبقى هكذا ؟ وأيّــان يأتي الفرج ؟ .
وغاص فكرُه فيما كان وما قد يكون ، وهنا خطر في باله أنْ يكتبَ فكتبَ :
(( قُبيلَ اندلاعِ الثوراتِ العربيّةِ وبَــدْءِ انصبابِ دمِ الشعوبِ أنهارًا ، وبزمنٍ
ليسَ بالقريبِ ، طالمــا كان جَـدّي " رحمهُ اللهُ " يُحـدّثـنـا عن قرْبِ انتهاءِ وفـنـاءِ
أوْربّــا وأمريكــا من خارطةِ الكونِ !!.
وحينما هو يتحدّث كانت بالطبعِ جــدّتي جالسةً بالقرب منه ، وهي لا ريبَ - وكعادةِ الكثرةِ
الكاثرةِ من النساءِ - لا تخفي حديـثـًا ! ، فتغدو بعدَ أيّامٍ لتحدّثَ صويْحباتها بما سمعت ،
فـيـأخذها الرواةُ بعد أن تذيع تلكمُ الأخبار ثمّ يسمّونها حكايات جدّتي .
إنّـما اللافتُ في هكذا مهايع - كما يقول جدّي - أنّ هناك من الناس مَن يقرّونَ بأمرٍ مــا ،
لكنّهم لا يكلفون أنفسهم البحث في وجهِ هذا الأمر وكيـفـيّـته ، وإيمانُ العجائزِ مريحٌ ويفيد
صاحبَه بُرد اليقين .
كان يـحـدّثـنـا مُستـنبطــًا رأيَـه – كما يقول – من بعض إشاراتِ الماضي وشيءٍ من قِراءاتِ
الحاضر قـائلاً :
تحدّثوا طويلاً عن الحربِ الباردةِ ، ثمّ ما لبثوا أن قالوا أنّ الحربَ الباردةِ قــد انتهت ،
والحقيقةُ هي غيرُ هذا وذاك ، فالذي جرى ويجري في عروقِهم ومنذ أمــدٍ ليس بالقريبِ هو
غليانٌ لا يعلم مداه إلا خيرُ الماكرين .
أقول لكم واللهُ أعلم : خلال الرُّبْعِ الأوّلِ من القرْن الواحدِ والعشرين ستنشبُ حربٌ مدمّرةٌ بين
أوربّـا من جهةٍ ورعاةِ البقر من جهةٍ أخرى ، والذي سوف يقودُ أوربّا في تلكم الواقعة هي ألمانيا ،
ولا أقول لكم أنّ قتلاهم سيكونون بالآلافِ بل بمئاتِ الآلاف ، وسيُفني أحدُهما الآخر .
وقد – والله – يعـزّ عليّ أن أكونَ حينها غادرتُ إلى أوّلِ منازلِ الآخـــرةِ !.
أطرقَ برهـــةً من الزَّمنِ ثمّ رفع رأسَه إلينا قائلاً :
أوصيكم أبنائي ويا أحفادي - وأنتم أصحاب الوفاء - أن تذكروني حينها وقولوا أن فلانــًا قالها ذات أصيل ،
ثمّ إذا لاحت بوادرُها فلا يبقى صديق لكم إلا وتخبرونه بهجر تلكم الديار كي لا يصيبه مكروه .))
هنا ترك يراعته جانبـــًا لتـأتي زوجُهُ والدهشةُ تعلو مُحيّاها :
أهاااااااا ... رجعت ؟
قال : نعم .
قالت : لماذا ؟
قال : لأنّي من مدينة (____ ) .