في لجة هذا العصر المعلوماتي التي تهدر أمواجه عابرة للقارات ، معلنة عن تلاشي البعد وتجاور الأصقاع .. اندرست الحدود الجغرافية ، وذابت الفواصل العقدية.. تمرد الأقوى ، وبسط سيطرته على الضعيف الهش ، ليصبح هذا الأخير مُرْغَما مهزوما إمّعة ، لا يملك من أمر نفسه إلا اليسير ، ولا مفر له من قبضة الحقيقة الموجعة ؛ ليهوي بين مخالبها كَلاًّ ذليلا لا يقدر على شيء..ويغدو مفعولا به ..أو مفعولا مطلقا ، يترنح بين شباك حرية وهمية معلبة ، أوتمرد زائف مقيت ..!
غير أنه في كلتا الحالتين يُسيره غيره كيفما شاء ..ووقتما شاء..لتُستل من بين مطاويه إرادته كما يستل السهم الرائش من قلب خافق ، ويوهن نبضه رويدا رويدا .. ليغيب عقله ، وتصير خطاه مرسومة بقلم رصاص باهت -لا صرير له - على مقاس من يجره ممتطيا هامته على الملأ
إنه التداعي الإنساني بأبشع صوره .. حين ينهار فينا صرح الإدراك بغاياتنا فيلجمنا التيه وتعمى البصائر عما يدور حولها ..فنفقد آدميتنا ..
بل هو السيل العرم الذي اجتاح النفس البشرية فسلخها من كينونتها وحولها إلى ذات أربع لا همّ لها سوى الفرار من رتبة الانسانية الراقية إلى حيث مراتع البهيمية الحمقاء التي لا تتعدى الأكل والشرب ولازمهما
من هنا ..ومن لحظة الحقيقة هذه التي تنتصب كمقصلة تطوق أعناقنا ونحن نجهل متى يمكن أن تهوي فاصلة الرأس عن الجسد ..كان لابد لهذا الطوفان المغرق المميت من جنادل ومتاريس ثصده وترده ، لتوقف سعيه ..أو تخفف من غلوائه ، وتحول دون اندراس المعالم وطمس الهوية ، وتلم - لعمري - مهمة شاقة قد تغور دروبها أمام الكثيرين ولكنها أبدا لن تتيه أمام الثلة الباقية التي اتخذت المنهج الثابت هاديا تسلك به الفجاج واللِجاج كالشمس في رابعة النهار
والثلة التى تأخر ركبها عن ركب الأولَى سبقوا
الثلة التي تأتي على حين فترة من التواصل المدود بين اللحظة الآنية المتغيرة ، والمنهج الثابت الأساس ، ذلك المنهج الذي يضرب في الأرض متجذرا بأعمق ما تكون الجذور
هذه الثلة ذات سيماء واحدة ،يربط بين لبناتها مادة أشد لحمة من أن تشتت جمعها ريح عقيم أو تنال من آصرتها لأواء وإن عظمت لتثبت ثبات الروح الصابرة بالجسد السقيم
ولما كان الأصل المميز ثابت المنبت والرجوع ..كانت الوسيلة في الوصول إليه وتناوله ، ثابتة أيضا ، كما ينبغي أن تكون الفروع للجذور
من هنا يلوح دور المنهج المغروس في أعماق الوعي.. المنهج الذي يحفظ للأمة كينونتها ، وهويتها ..ويمنعها من التميع بيَمّ جهالة المادة بسطوتها الفارغة أو التلون بخزي فوقيّةِ المترفين ، إنه روح الأمة وعنوانها المشرق الذي يميزها عن غيرها ،
وانتماء الفرد الأَوّلي لِلُحمة هذه الأمة ،هو عنصر اطرادها وبقائها ..
ولما كان الفرد ذاته وحدة في بناء ؛ فقد صيغت هذه الوحدة بحيث تحمل من الخصائص الذاتية ما يرفع رتبتها وييسر لها مهمتها ، لتغلب على الإنسان فطرة الله التى جبل الناس جميعا عليها ..وهي الإيمان به عز وجل ..والاستسلام لسلطانه العظيم ..وإذا ما تراخت هذه الخاصية عن الجنس الإنساني كانت مادة الفساد هي العنوان الرئيس الذي تعيش تحته القطعان الآدمية المنفلتة من فلكها.. والدائرة في غير محيطها.. لتزداد بهيمية وانفلاتا شرودا في غير محيطها
فالفرد الذي يحيا بغير إيمان ، إنما هو كائن رث وروح هشيم .. تستدبر فلكها وتسير عكس فطرتها مناهضة لها
ولشدة التلازم بين المنهج والصيرورة كان لابد من البحث عما يسد الفتق الناشىء عن الإنحراف والتسفل والإخلاد إلى الأرض كلما زادت الهوة بين اللحظة المعتمة وبين نقطة الضوء الأولى .
فما من أمة غبرت إلاّ جاءها من يوقظ فيها هذه الفطرة (... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ..)
وقد صرح بلوتارك أحد مؤرخي الإغريق القدامى قائلا :
" لقد وجدت في التاريخ مدناً بلا حصون، ومدناً بلا قصور.. ومدناً بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد"
من هنا كانت حتمية المنهج المميز ..
المنهج الذي به تتحدد ( حقيقة مركز الإنسان في الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني )
المنهج الحق الذي يمكن أن نسميه بالمنهج المخلص
المنهج الذي جاء للقيادة والريادة والسيادة .. ( ومهيمنا عليه )
به تنتظم الحياة وتجلو الغاية من الوجود الإنساني الشفيف..
وعليه تنتظم الخطى في سيرها بعيدا عن جواذب الطين ورهق المادة وشهوة الحظ
ولقد عبر عن ذلك - بداهة - ربعي بن عامر - رضي الله عنه - الذي أجاب (رستم )واثقا بغير عناء عن علة خروجه إليه ..جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد
منهج يتميز بتفرده في انتظام إطار الحياة بكل ما يحويه من صور الكون في عوالم الضمائر والبصائر وعوالم الواقع الملموس ...
منهج وسطي (امة وسطا ) لا يعذب من اقتناه ولا يشقى ب9 من احتذاه (طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى ) (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ... )
-----------------------------------
(1) كلما طالعت بعضا من اختيارات شيخ الإسلام في فقه التعامل مع الظرف زادت دهشتي وانبهاري لروعة ماسبق إليه وتفرد به .. وأيقنت بكل معنى أنه فرد فذ وعقل متفرد .