انكفأ في تعبٍ على وجهه ، فوق أوراقه المتناثرة على المكتب، و التي ازدحمت بشخصياتٍ و أحداثٍ ، كان هو المحرك لها ، كأنه يراقصها على حبالٍ ، عُقِدت أطرافُها بأصابعه.
تدحرج من يده القلمُ واستكان كصاحبه في غفوةٍ ، بعد ليلةٍ حافلة بصراعات شخصياته ، واقتتالهم على صفحات قصته الطويلة .
لم يشعر بخطوات بطله " راكان " الذي تمرد على سطور قصته ، وخلع معطف الحبر ، و اعتلى صهوة يده في حيرةِ وتأمل ، وشرع يتفرّسُ في وجه هذا الراقد ، وصمَّ أذنيه عن شخيره المزعج .
تلفّتَ حوله في تعجبٍ ، و أبهره وهجُ هذا المصباح فوق رأسه كأنه شمس منتصف النهار ،
وظلمة المكان كأنها سماءُ البيداء التي ينتمي إليها .
قفز عن يده إلى منتصف الصفحة الأخيرة ، فانزلقت قدماه على حبرها ، وشرع يقرأ تلك السطور أسفله .
“وانطلق راكان موجهاً عنان ناقته إلى قبيلة أخوالها ....”
فاغراً فاه في اعتراض ، حين وقعت عيناه على " قبيلة أخوالها" فتقرفص في مكانه ، ودفن رأسة بين راحتيه ، كأنه يندب حظه .
فكّر ملياً في كلام ِ " عروب " ، حين أخبرته بأن الوصول إلى مرابعها أمرٌ عسير ، وتلك السطور تؤكد نبوءتها .
كانت حسناء قبيلتها ، حديثها الشعر ، وخطواتها مرور السحاب ، وعيناها السحر ، وليل شعرها وشت به جارتها ، لبائع ٍ متجول ٍ ، فصار يضرب به الأمثال .
لقاؤهما عند تلك النبعة مازال يذكره ، حين أنهك الظمأ ناقته ، وشرب هو من ينابيع عينيها ، ومن يشرب من عين " عروب " يعود إليها .
قال والدها له : هي لابن عمها منذ الصغر ، والعرب عاداتهم دستورٌ لا يتغير .
وحين رآها وإياه خلسة - كأنهما نجمتان في غسق الدجى - أقسم بأن تزف " عروب " عند اكتمال البدر .
بعد أيام ثلاثة ، وشت " عروب " إلى واردة النبع - رفيقتها - بأن تخبره عن عزمها للرحيل إلى قبيلة أخوالها ، وتجرع مع كلماتها مرارة القهر ، وبابتسامةٍ خجلى ودعها ..
حدثته نفسه: " سيأتي الفرج "
لم يكن يعلم بأن تحالفه وأخوالها سينقض ، وبأنهم سيعودون بـ " عروب " إلى مضاربها قبل اكتمال البدر .
بيد أن رؤيا أتته في المنام ، والعاشق يصدق رؤياه ، أخبرته بأن يوجه عنان ناقته إلى مضارب أهلها .
الحيرة تنهش ذاكرته ، يبحث عن مقصدِ هذا الراقد أمام عينيه ، ويؤرقه ذاك الهاتف في المنام .
قرر ذات فطنةٍ أن يتبع إحساسه ، وتجاهل كلمات واردة النبع ، هي أقرب الصديقات ، وهو عاشقٌ ثملُ .
أمسك في صعوبةٍ القلمَ ، وفي الشوط العاشر طمس " قبيلة أخوالها " ، وخط " قبيلتها " وأتبعها بنقطة .
“وانطلق راكان موجهاً عنان ناقته إلى قبيلتها ".
ثم أكمل ..
لم يغمض له جفن ، ولم يشفق على ناقته ، والشمس والقمر يتعاقبان عليهما ، حتى كاد البدر يكتمل .
وعلى مشارف ِ مضارب أهلها ، ظهيرة البدر ِ ، لمع ثغرها على سيفه ، فجرّده في وجه خالها ، ثم ..
توقف فجأةً عن الكتابة ، وسقط من يده القلم .
استفاق هذا الراقد في تململٍ ، وفرك عينيه ، وطقطق رقبته ، ثم نظر إلى أوراقه في حيرةٍ من كلماتها الأخيرة ، وحكّ رأسه بالقلم .
ارتسمت على وجهه ابتسامة الحيرة ، والظفر ، حين شرع يكتب هذه الكلمات ..
" فعاجله خالها بطعنةٍ نجلاء ، وصرخة باسمها ظلّت مدوية حتى مطلع الفجر . "
تمت ..
رتب أوراقه في عجل ، وانطلق إلى الجريدة ، يحمل في نشوةٍ قصته ، وبعض قطرات حبره استقرت على المكتب .