كان أثار انتباهي كثرة الجدل حول قضية الزحافات التي تصيب التفاعيل الشعرية وحرص عدد غير قليل من الشعراء خصوصا المبتدئين منهم على التذرع بأن ما وسع غيرهم يسعهم وأن العروضيون أجازوا كذا وسمحوا بكذا ، ويجتهد عدد منهم في البحث عن شواهد أكثرها شاذ لا يقاس عليه والباقي غير منطبق الحكم أو مما لا يعتد به ، ويسوق بعضهم الرأي بأن هذا من باب الضرائر الشعرية هذه التي أرهقها الجميع بحمل ما لا تحتمل فبات كل عجز عند الشاعر يمثل ضرورة شعرية لا يمكن الاستغناء عنها ولا حتى استبدالها.
ولعل مما بات منتشرا في مثل هذه الحوارات أيضا الفرض القائم بأحد أمرين ؛ فإما قول بأن العروض هو ما يحكم الشعر وما أفتى به من جوازات هي قائمة وصحيحة ، وإما قول بأن الشعر هو رب العروض وأنه يجب أن يخضع له لا العكس ، وبين هذين الفرضين تطرفا يصبح الجدل عقيما مشوشا.
وللحق فإني وبعد تأمل واستقراء لأسباب هذه الظاهرة وجدت أن المسؤولية لا تقع على أكتاف الشعراء وحدهم فحسب بل وعلى أكتاف العروضيين الذين رأيت أن أكثرهم إن لم يكن كلهم تعامل مع الشعر بناء على وحدة البناء "التفعيلة" وأغفل وحدة البيت "البحر" ، وأزعم بأن هذا هو سبب اللغط الذي يحدث في مثل هذه الحوارات ويربك الكثير من الشعراء ممن يتحرى تتبع العروض قياسا لا إلهاما.
المشكلة إذًا تائهة بين البحر والتفعيلة.
إن التفعيلة هي لا ريب وحدة البناء الشعري فتكرار متفاعلن مثلا ست مرات يعطيك بيتا شعريا محدد البحر ، وتكرار الأبيات يعطيك قصيدة ، ولكن الذي لم ينتبه العروضيون له في كتاباتهم المتخصصة وتفصيلاتهم لوحدات البناء وللدوائر وما يتعلق بالبحور هو أن التفعيلة ذاتها تتصرف بخصوصية وفق البحر الذي هي فيه ، والأحكام العامة التي تقتضيها المصطلحات العروضية كالكف والقطع والخبن والوقص والعصب وغيرها إنما تصيب تفعيلات معينة ولا تصيب غيرها ، فحين يقال مثلا بأن الكف هو حذف السابع الساكن فهذا تعريف عام لكنه لا يصيب كل التفعيلات السباعية ، وهذا أمر يقع فيه بعض الشعراء حين يكفون تفعيلة لا تطيق الكف فيقولون هذا من الزحافات التي سمح بها العروضيون وتسمى الكف وهي حذف السابع الساكن ، دون أن يتبينوا أن هذا الأمر لا يصح إلا في حالات معينة ومع تفعيلات معينة.
أما الذي أزعم أن عددا غير قليل من العروضيين يقع فيه وهو أهم عامل مشوش في مثل هذا الأمر فهو عدم التوضيح أو التفريق بين سلوك ذات التفعيلة وفق البحر الذي يضمها. ولذا فإن أكثر ما قرأت من علوم العروض - وأقر بأنها ليست كثيرة - إلا أنها كانت دليلا كافيا عندي على أن الخلل يحدث بسبب عدم التفريق أو التوضيح ، وبأن أكثر التناولات للزحافات إنما تكون للتفعيلة مستقلة بذاتها ، ولنأخذ مثلا التفعيلة مستفعلن التي يمكن أن يصيبها عدد كبير من الزحافات كالإضمار والخبن والطي لنجد أنها تستعمل عسفا من قبل بعض الشعراء في بحور مختلفة ، وسأسوق هنا مثالين واضحين على استعمالها في بحرين مختلفين ليتضح المعنى الذي أقول في هذا التوضيح.
في البسيط:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وفي الرجز:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
أما في بحر البسيط فمستفعلن لا تتصرف تصرفها في بحر الرجز إذ يلزمها الجرس على أن يكون الزحاف المقبول فيها هو الخبن لا أكثر بل ويكون هذا في التفعيلة الأولى ، ولا يقبل في التفعيلة الثانية ذلك أن جرس البحر يرتكز على صورة ثابتة من مستفعلن فعلن ويسمح بالتغيير الجرسي بالخبن في النصف الأول من الشطر.
وأما في بحر الرجز فمستفعلن أكثر حرية ويمكن أن تطيق أي من الزحافات الثلاث في أي جزء من البيت دون غضاضة.
وهذا يعني بأن ذات التفعيلات لا تتصرف بذات السلوك في بحور مختلفة ، وأن الجوازات والزحافات إنما تكون للبحور كل وفق ما يقبل ، لا أن يخصص الأمر بالتفعيلات فتعمم زحافاتها في كل موضع تكون فيه.
أرجو أن أكون وفقت في رصد العلة وتوضيحها وأن يكون في هذا ما يضيء الطريق للشعراء بخصوص الزحافات واستعمالاتها ، وأن يكون القياس على القاعدة لا على شواذها وأن يراعى خصوصية كل بحر واختلاف سلوك التفعيلات فيه.
هذا ولعلني أعود لاحقا بإذن الله لطرح التطبيق العملي للزحافات أكان ذلك على مستوى التفعيلة أو على مستوى البحر ليكون طرحا مبسطا كهذا فيسهل القياس عليه للجميع.
تقديري