ها هو بديع الزمان الهمذاني يتصفح عمامته الضخمة، وكأنه يتوقع منها أن تلتقط ما تيسر من شوارد الأخبار والصور المتهاطلة على صحون البارابولات من الأقمار الصناعية، بينما يزمجر مقدم البرنامج قائلا:
- أعزائي المشاهدين، عزيزاتي المشاهدات، كما عودناكم تماما، منذ اندلاع أول ثورة مغاربية في تونس، ها نحن نقدم لحضراتكم واحدا من كبار المبدعين العرب والعجم، نستضيفه الليلة كمحلل لما يجري في واقعنا الراهن، إنه الشيخ بديع الزمان الهمذاني رضي الله عنه وأرضاه.
بعد ذلك سأله مقدم البرنامج قائلا:
- مرحبا بكم، فضيلة الشيخ..ماذا يجري في الساحة المغاربية والعربية برأيكم؟
- الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
لما طغى السلطان، وتغول في الأوطان، بما يندر له مثيل في كل الأزمان، ظهر فساده في الدولة والأديان. اشتد في نفوس الشعب الاحتقان. إنه وجه الخسران، ليس لآثامه مقياس ولا ميزان. يرمي من عارض حكمه بالتخوين والبهتان. فلا ينفع معه حلم ولا إحسان. من أموال الأمة سرق الأطنان، ولا يفرق بين الشعب والجرذان. وهو مثل الكنغر كثير القفز، لا يثبت على عهد ومن النفاق لا يحترز، وبيده مفاتيح الكنز، يغري من يشاء من أهل الغمز واللمز، ولا يفرق بين العز والطز. لظلمه وجه السماء تكدر، ومن سخط الرب عليه القلب تحسر، وهو السامع لآيات الله فتكبر. أخذته الطزة بالإثم فتجبر. وكان لزاما على صوالح الأمة أن يجدوا لغطرسته حدا، ويعدوا جرائمه أمام المحكمة عدا، ويقيموا عليه في الساحة العامة حدا، لكي يبقى لغيره من المتجبرين عبرة، ولمن يأتي بعده من المصلحين حكمة، فلن يتسنى لمن راضعه ثدي هذه المصيبة، أن يفكر في استفزاز الشعب مرة ثانية. لما انحرف السلطان سبعين درجة عن جادة الحق المبين، وشرد من الشعب الملايين، فاتبع الهوى، وركن للرشوة، وبذر الثروة، واستسلم للنزوة، فأخذته الشهوة بالإثم وراح يستعبد الأمة، وأسر وأعلن انسلاخه عن أعراف أهالي الدنيا والآخرة، فلم يكن منه إلا أن أمعن في أكل الحرام، ونكث البيعة بالتمام، والتخلي عن الإسلام، واستبدال الحقيقة بالأوهام، ونشر البطالة بين الأقوام، واسترقاق الأحرار، أناء الليل وأطراف النهار، محيطا به ثلة من الأشرار، وقد قاطع جميع الأخيار، حتى أغضب الوحوش والأطيار، في كل الأدغال والقفار، وسقطت لظلمه أوراق الأشجار، وانشقت لفساده الأحجار، وارتكب من الكبائر ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا الرواة به حكت، ولا الكتب الصفراء عنه أخبرت، ولا الجن به علمت، وقد أبى إلا أن يواصل بالأمة ما طاب له من الاستهتار، وما ضاقت به الأرض من التكرار، في أمور العلم والاجترار، فأصبح جاهلا بكل ما يحيط به من الأخبار، ولا يأبه بما يحدث في الأمصار، من مصائب الفساد فكيف يفوز بجنة تجري من تحتها الأنهار، وهو زبال التاريخ الذي حرم الأمة من أي ازدهار، فلم يجلب لها عزا ولا إكبار، فاستبدل الانتصار بالاندحار، وللدولة عجل بجلب الانهيار، فأسقطها على رؤوس الأبرار ، فما ترك فيها من عمران ولا آثار. لم يترك للأمة فيما آلت إليه الدولة الخيار، بل جعلها مزرعة له غير مقتد بسنة الأنبياء ونصائح الأطهار، فيما سار عليه من الحكم البليد فيا لسخرية الأقدار، وقد أصبح أميرا للفجار، استرسل في غيه إلى أن أتاه شباب الأمة كالإعصار، ليخلصوا منه ومن أمثاله الديار، فيُطوى ذكره كما تُطوى قراطيس القصص والأشعار، ألا سحقا له من متوحش يسقط عنه الليل ويطرده النهار.