الرسالة الثالثة
امتَطَيتُ صَهوةَ الصَبرِ بعدَ أنْ صَمتَ البَدرُ , فتأهبتُ وَجمعْتُ من فاكِهةِ السَّمرِ , وقُوتَ السَّهرِ مَا يُطربُ الخلفاءَ , و يُؤنسُ الغرباءَ , ويُغري الأتقياءَ ؛َ وَدَّعْتُ عَتبةَ السَّأمِ , وَمَزَّقْتُ لباسَ القنُوطِ ؛ وعانقْتُ الآمالَ عناقَ الرَاحِلِينَ .
جاءَ الليلُ يجرُّ عرباتِه البائسةَ مُتمَلْمِلاً , قَد أَثقلَهُ إِكليلُ زَفافِ الأَرضِ , وقد أَخفى زِينَتَهُ , أنا وحيدٌ في المحطةِ , أزهَارُ البَساتينِ بانتظارِ مَوكِبِ العَرسِ , نَادَى الظَّلامُ : الرحلةُ حَانَ خوضُها , وأُذْكيتْ شَرارتُها , فشمرتُ عن رأسٍ لم يَعْرفِ المِشطَ مُذْ أنْ هَرَبَ بَصيصُ الغَيثِ , مُذْ أنْ جَفَّ نهرُ الفَرحِ , وَمُذ أنْ تَسَلقَ البؤسُ إِلى خيوطِ السَّرَابِ لينسُجَ ثَوبَاً لأَحلامِي , رَكَبَ كُلٌّ وحبيبتَه , الوُرودُ بِأيمانِهم , والمَرحُ والسُّرورُ يُداعِبُ أعطافَ جَدَائِلِهم , العطرُ يغمرُ أفواهَهم وَكَلِماتِهم , يداً بيدٍ وَقلباً ... , الغَزَلُ رَقَائِقُ غَمَامٍ يَنْسَابُ من قُلُوبِهم , همسٌ ولمسٌ وغمزٌ يتَبَادلونَه بِلُطْفٍ , فــــــأرقَ القَلبَ شوقٌ , وَأَضرَمَ في النَّفسِ حَشرجَةً , سَرَّحَتُ عيني بعيداً , أرقِبُ سَماءَ الذّكرياتِ ونسيمَها , وَأيامَ كنَّا نلهو في الأَنهَارِ خَلفَ الأَحلامِ الطُّفُوليَّة , والأَسماكِ الورديةِ , وإذ بِحُورِيتينِ في مخيلتي لا تَعْرِفَانِ الأفولَ , ألهمتْني الأُولى حُبَّاً مُستعراً , فَرسمْتُ دَربي ألحَاناً وأنرتُه إنشَادَاً , والثانيةُ صَمتتْ دَلالاً وكبرياءً سِوى بَسمةِ أملٍ ارتسمتْ على شَفَتيها , فتشبثَتْ بِجدائلِها رُوحِي الغَرقى ؛ عِندَها صَعدتُ مغنياً - وأنا عَالِقٌ بِهَاتينِ النَّجمَتينِ - بعدما صَاحَ نَجمٌ : الليلُ سيقلُكم حيثُ أَحلامُكم .
قعدتُ قُربَ مِطفأةِ الأسى , ظَللتُ وَحيداً حتَّى قَارَبْنَا بَوابَةَ الفَجرِ , الرُّكابُ قد فارقَهم السّكوتُ , فضحكاتٌ تعلو ضحكاتٍ , والمرحُ يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ , وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ . أجلسْتُ جُنبي " ريَّا " لكنَّها تنظرُ من نافذةِ الليلِ إلى فَجرٍ لم يَزلْ فِي التَرائبِ , شَعْرُها يُغطي كلَّ ما تقعُ عليهِ عيناي , أحاورُها وأُناغيها لكنَّ الصمتَ رداؤها , عزفتُ لها قصيدةَ المَجنونِ وَلَمْ تَصِخْ ؛ يَا " ريَّا " .. الصُبُّ متَّى موعدُه ؟ فَتأججَ صدُودُها , واحمرتْ خُدودُها , تَوقفَ اللَّيلُ فِي محطةٍ الإنتظارِ بينَ الغيومِ الزاهرةِ بأوتارِ النجومِ الغَانياتِ , وَنَشيدِ الزَّهرِ وَأَلوَانِ الفَّرَاشَاتِ , العَذارى والفتيةِ يتبادلونَ بسماتٍ ممتلِئةً بِالحُبِّ , وَكؤوسَاً منِ عذبِ الكلامِ , - وأنا في غَيهبٍ معتقٍ في الجُبِّ – و " ريَّا " كَأنَّ الصَّومَ قِلادَتُها , وَالصُّدودَ بُرجُهَا , وَلا تَزدادُ في عينيَّ إلا جَمَالاً وَفِي قَلْبِي إلا حُبَّاً , وَعشقُها يَملأُ أَركانَ الكَونِ , أُغَازِلُها فَيُورِدُ فِي شَفَتَيهَا الحَياءُ , عِندَ قَدميها يُرَفرِفُ فُؤادِي الأَسِيرُ مَذبُوحاً , فَتَضحَكُ نَاظرةً إلى ذَبيحِ عينيها .
آهٍ مَا أَقساكِ , ذَبُلَتْ آمالي , وَتلاشتْ عِدَّتي , هَباءٌ سَفري , فَصَبرٌ جميلٌ , وَاللهُ المستعانُ على سِحْرِ العُيون .
منتظر 2/2 / 2011