الغُول والحِكمة :
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ولا تُسرّ إلى امرءٍ قولا ، فتقعد كأسير بين جلاّد وقضبان .
كالذي حكم عليه المكث احقابا ، ما بين نار مرة ودخان .
يأتيه من شرر حرّه ، لا هو بنور ولا أمان .
وإني وإن كنتُ من خير البرية أرومة ، من مَعَدٍّ وعدنان .
وإسماعيل من قبل ، عقّب بقيدار ودومان[1] .
لا أظن بغول قط ، وإن قام الأنام يذكرونه على مرّ أيام وأزمان .
إنك إن فعلت ، يأتيك الغول ! ما هو بإنس ولا جان .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
ثم :
جاءت تركض وتلهث والرعب أخذ منها مأخذه ! وحتى كاد أن يبلغ قلبها حنجرتها .
قرأت عليها رقية حتى ذهب عنها الخوف وعادت تهدأ .
فقلت لها : ما بكِ ؟
قالت : الغول ورائي ويريد أن يأكلني ! .
قلت : أين هو ؟
نظرت خلفها وقالت : هناك ! .
قلت : لن يصل إليكِ ،،، ما رأيكِ لو دعوته لأسمع قوله ؟
صرخت وقالت : لا .
قلت لها : سئمت وأنا أسمع بالغول ولا أراه ،،، ولكن سأريكِ مكانه .
قالت : لا .
قلت : أتخافين يا فتاتي وأنا معكِ ؟! .
قالت : هاه !! .
قبلتها بين حاجبيها وقلت : وإذن ؟؟؟ .
قالت : لا أخاف ،،، على أن تمنعني منه .
قلت : أفعل إن شاء الله .
ولكن ،،، هل تعرفي ( خَوْد ) ؟
قالت : من خود ؟
قلت : خود بنت مطرود البُجَيْلية ؟
قالت : سمعت بها .
قلت : كانت فتاة ذات مقام محمود عند أبيها ، ولا أستثني جمالها الأخاذ ، وعندما علم بها سبعة إخوة من الأزد ، وكلهم وسيم يعجب الرائي ،،، ذهبوا ليخطبوها إلى أبيها .
وكانت معهم ربيبتهم الشعثاء وكانت كاهنتهم ،،، فلما علم والد الفتاة بأمرهم وأنهم من بني مالك بن غفيلة ذي النِّحْيَيْن[2] ، قال لهم انزلوا على الماء .
وفي الصباح رحب بهم ، فقالوا له : بلغنا أن لك بنتا ونحن كما ترى شباب ، وكلنا يمنع الجانب ، ويمنح الراغب .
قال : كلكم خَيار ،،، ولكن امكثوا حتى نرى رأينا فيكم .
ثم دخل على ابنته خود وقال لها : قد أتاك هؤلاء القوم يطلبون ودّكِ .
قالت : أنكحني على قدري ،،، ولا تشطط في مهري ،،، فإن تخطئني أحلامهم لا تخطئني أجسامهم ،،، لعلي أصيب ولدا ، وأكثر عددا .
هزّ والدها رأسه وخرج إليهم وقال : أخبروني عن أفضلكم ؟
تصدّت ربيبتهم الشعثاء وقالت له : اسمع أخبرك عنهم ، هم إخوة ، وكلهم أسوة .
أما هذا فكبيرهم مالك : ،،، جرئ فاتك ،،، يُتعب السنابك[3] ، ويستصغر المهالك .
وأما هذا فالغمر : بحر غمر ،،، يقصر دونه الفخر ،،، نهد صقر .
وأما هذا فعلقمة : صليب[4] المعجمة ،،، منيع المشتمة ،،، قليل الجمجمة .
وأما هذا فعاصم : سيد ناعم ،،، جلد صارم ،،، أبيّ حازم ،،، جيشه غانم ،،، وجاره سالم .
وأما هذا فثوّاب : سريع الجواب ،،، عتيد الصواب ،،، كريم النِّصاب كليث الغاب .
وأما هذا فمُدرك : بذول لما يملك ،،، عَزُوب عما يترك ،،، يفني ويهلك .
وأما هذا فجندل : لقرنه مُجدل ،،، مُقِلّ لما يحمل ،،، يعطي ويبذل ،،، عن عدوه لا ينكل .
فسمعت خود ماقيل ،،، ثم شاورت أختها العثماء[5] وكانت حكيمة .
فقالت أختها : ( ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدّخل[6] ) .
إنّ شر الغريبة يُعلن وخيرها يُدفن .
انكحي في قومك ولا تغرركِ الأجسام .
لم تقبل خود من أختها وقالت لأبيها : أنكحني مُدركا ،،، فأنكحها أبوها على مئة ناقة ورعاتها .
ثم حملها مدرك ويمم شطر قومه .
فلم تلبث إلا قليلا حتى صبحهم قوارس من كنانة ،،، فاقتتلوا حتى انكشف[7] عنها زوجها وإخوته وكل القوم ! .
فسُبيت خود فيمن سُبوا ،،، ثم صارت تبكي .
فقالوا لها : ما يبكيكِ ؟ أعلى فراق زوجكِ ؟
قالت : قبحه الله .
قالوا : لقد كان جميلا وسيما ؟
قالت : قبح الله جمالا لا نفع معه ،،، إنما أبكي على عصياني أختي ونصحها .
وقصّت عليهم القصص .
فاقترب منها رجل يقال له ( أبو نواس ) وكان شابا أسودا مضطرب الخلق ، قد رقّ لها وعرف أنها برغم جمالها تنشد الأمان برجل شديد عتيد .
نظر إليها وقال : يا خود ،،، أتقبلين بي راضية على أن أمنعكِ من ذئاب[8] العرب ؟
نظرت إلى أصحابه وقالت : أهو كذلك ؟
قالوا : نعم ،،، ومع ما ترين ليمنع الحيلة وتتقيه القبيلة .
قالت بصدر رحب : هذا أجمل جمال ،،، وأكمل كمال ،،، وقد رضيت به .
ــــــــــــــ انتهى ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
قلتُ لفتاتي : هاه ما رأيك بقصة خود هذه ؟
قالت : قصة محزنة ،،، ولكن ما علاقتها بالغول ؟
قلت : أحسنت يا فتاة ،،، أين الغول هنا ؟ أقصد بقصة خود ؟
قالت : لا أفهم قصدك .
قلت : عجبا لكِ !!! ألم ترينه ؟
قالت : كيف وأنّى ؟
قلت : لقد كان الغول كامنا في :
أولا : وصف الكاهنة الشعثاء للإخوة السبعة من أنهم وأنهم .
ثانيا : في كلام أختها من أن شر الغريبة يعلن وخيرها يدفن .
ثالثا : في حكمة أختها حين قالت أيضا ( ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل )
رابعا : وحين انكشف عنها زوجها وإخوته وتركوها .
قالت : أتعني ،،، .
قلت : نعم ،،، الغول الذي نخافه ولا نراه ليس حقيقة .
أما الغول الحقيقي فهو هنا ،،، وأشرت بأصبعي إلى رأسها .
الغول يا فتاتي كَمُن في كذب الكاهنة .
الغول كمن أيضا في عبارة وما يدريك ما الدخل .
الغول كمن أيضا في رفض النصيحة ،،، وهروب الرجال وترك النساء .
وهذا هو الغول الحق .
والآن ،،، أخبريني مم كنتِ خائفة ؟
قالت : من الغول ! .
قلت : ماذا !!!!!!!!!! ؟
قالت : من غول النفس وحسب .
قلت : أحسنتِ ،،، وآخر كلامكِ ؟
قالت : إن ذهب العقل حضر الغول ،،، وإن حضر العقل نزح الغول .
فما الغول إلا وهما إذا تصدت له الحكمة .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــ انتهى ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
حسين الطلاع
4/9/2010 م
المملكة العربية السعودية- الجبيل
[1] قيدار ، ودومان : أبناء إسماعيل عليه السلام ،،، وقيدار إبنه الأكبر الذي بنى مدينة سكاكا بالجوف أو هو أول من سكن بها ،،، أما دومان فإبنه الثاني الذي بنى دومة الجندل وسميت دومة نسبة إليه .
[2] : النّحي هو وعاء السمن ويدل على الكرم والثراء .
[3] : هي سنابك الخيل أي حوافرها ، كناية عن أنه مقاتل شجاع لا يكل ولا يتعب .
[4] : الصليب : صفة الصلابة والمتانة .
[5] : العثماء بنت مطرود البجيلية حكيمة من الحكيمات .
[6] : مثل عربي جاهلي ويعد من الحِكم الشهيرة عند العرب قالت عثماء الآنفة الذكر ،،، أي لا يغرنك طول الأجسام وحسنها حتى وإن كانت مثل النخيل طولا ،،، فما يدريك ما الدّخل ، والدخل هو العقل والفكر .
[7] : انكشف بمعنى انهزم .
[8] : ذئاب العرب هم الذؤبان الصعاليك واللصوص .