أشهد عدل القرار!!
ابتدأ يوم آخر من العمل , هذا اليوم مختلف,
فالجميع قلق بشأن قرارات ادارة الشركة , اليوم ستعلن الترقيات والجميع يتهافت على باب المدير العام يستنشيء الاخبار,
كل واحد من الموظفين صغيرهم وكبيرهم يعتقد بأنه واحد من أولئك الذين لهم الحق المبين في الترقية0
أما أبو محمد..
فقد ذهب إلى مكتبه كعادته, ينكفيء خلفه , يحمل قرطلاً مليئاً بالأوراق والتي اعتاد أن يحملها معه الى البيت لإنجازها
فهو يعمل في هذه الشركة منذ عشرين عاماً من غير كلل أو ملل ,
الكل يستضيء برأيه ويستنير بخبرته,
لم يبخل يوماً بمساعدة قد يطلبها منه أحد ,
يقـدّس العمل وأهل لحمل المسؤولية ,
يؤمن بأحقية الشركة بكل دقيقة خلال فترة دوامه فيها ,
لا تهمه نفسه بقدر ما تهمه المصلحة , يتياسر في أمر نفسه وصحته ,
لا يرحم عقله من الإجابة على الاستفسارات التي يطرحها عليه الموظفون الجدد , وكثيراً ما يقوم بانجاز أعمال غيره
هكذا تعود الموظفون رؤية أبي محمد , لقد بات معراجاً يتصعـّده الكثيرون للوصول إلى القمة ,
والبعض يفترص الهـُنيهات من أجل مصالحه الشخصية ,
ومع كل هذا , فهو رجل غير مرغوب فيه , لأنه كنود, صادق, جريء , لا يتقن مهنة التملق ,
بل لا يستطيع تمثيله في أكثر المواقف حاجة إليه ,
كان أبو محمد ولا يزال سلسبيلاً اذا ابتعدت عنه,
لكنه كالمعضد يقطع اوصال من يتعدى عليه.
لحظات حرجة تمــرّ , الدقائق تعبر جلدات على رؤوس من يتوقعون الترقيات وشهادات التقدير والعلاوات,
الكل يحس بأنه سنيّ ستنهال عليه بعد قليل بشائر الوجاهة ,
بعضهم يرفل بلخاً يتخطى المكاتب والأوراق ويغتال الوقت بمطالعة صحيفة أو شرب القهوة,
والبعض الاخر يفتـّت الساعة بنقاش حاد يقنع من حوله باخلاصه, والسيناريوهات التي تجري كلها كأنها دلالات المسؤولية للموظفين حديثي الترقية.
أما أبو محمد فرجل واثق بنفسه , واثق بعدالة الادارة هذه المرة , فلقد اعتاد الصمت كل سنة إزاء قرارات الترقية السابقة ,
حيث كان يلتمس للإدارة العذر فيبحث في شخصيته عن ثغرات لا تؤهله للحصول على أي منصب أعلى مما هو فيه.
اما هذه المرة فالامر يختلف, حيث مميزات الرجل الناجح التي تعلنها مثابرته وإخلاصه تؤكد فوزه بلا منازع,
فهو أكبرهم سناً , وعلامات الاخلاص بادية على وجهه
وتعلن عنها انحناءة ُظهره.. وصحتـُه التي تتردى يوماً بعد يوم كانت ثمناً لهذا الاخلاص.
ومع هذا يؤثـِر الصمتَ ولا يحاول أن يـُظهر للاخرين بأنه من المنتظرين للترقية.
شارف اليوم على الانتهاء , وفي نهاية الدوام
أعلن عن اجتماع طارىء ليتم الإعلان عن جملة القرارات التي خرجت بها الادارة ,
دلف الموظفون من مكاتبهم إلى قاعة الاجتماعات
يتعثرون ببعضهم البعض
وسرعان ما كـُشف عن المخبوء الذي طال انتظاره .
وجوه مكدودة في إحدى الزوايا , ترفس الاوراق يمنة ويسرى , ووجوه أخرى مفعمة بالفرحة ,
ولم يمنح أبو محمد شيئاً .
راح أبو محمد يرمق القاتل بنظرة عتاب تذكره بواجبه المقدس
نحو المخلصين لكنه لم يتذكر ولم يع النظرة .
أعطبت فرحة أبي محمد المكتومة والتي لم يعلن عنها آنفا , واخترمت أحلامه ,
رفع رأسه وصاح في وجه المدير:
يا سارق عمرى لك الله أيها الظالم .
بعدها ألفى ابو محمد نفسه معزولا ,
وقد اهترأ الجسد من كثرة الانهماك في العمل ,
اهتزت مبادئه التي طالما افتخر بها وأرضعها لاولاده ,
وأدرك أخيراً أن الإخلاص وحده ليس كافياً لترقيته !!!!
راح ينوص عن مكتب المدير
مهرولاً يـُقدّم استقالته بهذه الكلمات
( أستقيل .. وأشهدُ عــدلَ القرار)
....... الى هنا
تحياتي ...ناريمان الشريف