أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: حكايا الزمن........ سعدالله

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 52
    المواضيع : 6
    الردود : 52
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي حكايا الزمن........ سعدالله

    حكايا الزمن

    سعدالله

    "سعدالله الزبال " .... هذا ما يطلقه الناس على والدي في حارتنا و في الحارات المجاورة التي يعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما ، كهل تجاوز عقده الخامس يجر عربة ذات عجلتين متوسطة الحجم بصبر و توأد يجول بها منذ الصباح الباكر بين الأزقة والطرقات يجمع قمامات البيوت و الدكاكين و يسير بها الخلاء حيث مكب النفايات ، هاديء الطباع , ملامح وجهه النحيل جامدة لا تكاد تتغير ، قليل الكلام لا يتحدث إلا لضرورة ، لم نعلم له صديقا أو قريبا يزاوره ، حتى رفقاء حرفته كل معرفته بهم لاتتجاوز هموم العمل اليومية واحوال البلد. بعد عصر كل يوم يعود والدي إلى بيتنا الصغير ، حجرة امامها باحة صغيرة في بدروم إحدى بيوتات الحارة ، نكون في انتظاره على عتبة السلالم الخارجية أنا و والدتي و شقيقتي الصغرى "زينب" و بمجرد إطلالته من مدخل الزقاق المقابل نهب أنا وزينب إليه فيمسك كل منا بمقبض من مقابض العربة " خلي عنك يا با " تداعبنا عيناه بحنان ولكن يداه تأبى مفارقت المقبضين و كأنما إلتحمتا فيهما و تأبيا مفارقتهما ، يبادر أمي بالسلام :
    - " العوافي يا فاطمة "
    - "الله يعافيك يا بو محمد ..إزاي يومك"


    يكتفي بإماءة رضا يهز بها رأسه ، يمضي جل وقته في المنزل بجانب المذياع ، لم أذكر أنه نهرني أوأختي زينب قط بل يكتفي بتعليقات بسيطة او إشارة بيد نتقبلها دوما بصدر رحب ، يتسرب إليه النوم على غفلة و هو يستمع إلى المذياع ،تنبهه أمي فينظر إلينا ليرى إن كنا لاحظنا ذلك ، يؤي إلى فراشه وقد أخذ منه التعب كل مأخذ فلا يستيقظ إلا على أذان الفجر. يصحبنا معه في الصباح إلى المدرسة و في الطريق يتوقف في منتصف الحارة فيهرع إليه صبية الدكاكين و المحلات بشوالات و جرادل القمامة ، لم يكن يحادث أي منهم و لا معلميهم أصحاب الدكاكين و المحلات ، في الماضي كان يلقي السلام و لا يجد من يرد عليه كأنه غيرموجود فآثر معاملتهم بالمثل ، يسير بنا نحو مدرسة زينب فيتوقف بالعربة بعيد عن باب المدرسة , يمسكها من يدها بلطف و يأخذها حتى باب المدرسة ، يفعل الشيء نفسه معي و بعد ذلك أراه و قد أغذ في السير تتبعه عربته و لا يلتفت أبداً.

    ذات يوم إشتبكت في عراك مع بعض أقراني في المنعطف المواجه لمنزلنا و ترافق ذلك مع عودته يجر عربته بتأنيه المعتاد ،سمع أحد الصبية و هو يصرخ في " ما بقاش إلا أنت يا ابن الزبال يا معفن يا واكلين الزبالة يا......." صمت فجأةً فور رؤيته لوالدي فأطلق ساقيه مع بقية الصبية للريح، أوقف والدي العربة و حرر يديه من مقبضيها و أشار إلي فقدمت إليه و انا انفض الغبار عن ثيابي و أخذ يتفقدني برفق و يسترق النظر إلى عيني يبحث عن أثر للحزن فيهما فلا يجده كوني إعتدت على الأمر منذ وقت طويل و أينما حللت تظل مهنة والدي هي كنيتي اللصيقة في السراء و الضراء و لكن و جه والدي تبدل من تلك الليلة و بدأ حزينا عابسا طوال المساء حتى لاحظت والدتي ذلك ،
    -مالك يا بو محمد ، وشك مقلوب كده ليه
    -من بكره حدور لي على شغلانة ثانية
    -ليه كفالله الشر ، نطقت والدتي بذلك و و الدهشة ترتسم على وجهها الصغير
    -أنا من بكرة حأكلم الشيخ مرزوق أشاوره و خليه يشوف لي شغلانة عند حد من معارفه.

    في الصباح سرنا في طريقنا المعتاد و يدا والدي تسمرتا على مقابضها يشدهما بشراسة ، فبادرت لأمسك أحد المقابض لأعاونه في سحبها فدفعني بغلظة

    -ياك تقرَّب منها مرة ثانية

    إرتعش جسدي من ردة فعله التي لم أعهدها يوما ، توقف في منتصف الحارة فأنهالت الجرادل و الشوالات على العربة كعادتها فيما ظلت عيناه تبحث عن الشيخ مرزوق ، من بعيد لمحتُ المعلم "إبراهيم العطار " و هو يصغي بحنق لـ " جودة الأعور" بلطجي كريه السمعة في حارتنا و الحارات المجاورة ، يغيب في السجون فترات طويلة ثم يعود بعد ذلك يمارس طغيانه من جديد ، شاب طويل عينه اليسرى مطموسة و يخفيها برقعة سوداء يربطها بمؤخرة رأسه المنكوش الشعر مما يزيد وجهه الأسمر شراسة و رعباً ،واسع الصدر ،يرتدي حول عنقه القصير قلادة سواداء ينتصف فيها ناب عاجي أبيض مدبب الرأس ، ظللت أتابع حوارهما الصامت الذي زادت حدته فيما ذهب والدي يبحث عن الشيخ مرزوق قي المقهى المقابل ، لا بد أن "جودة" عاد يجمع الإتاوات كعادته في كل مرة يخرج فيها من السجن ، رجع والدي تظله سحابة من خيبة الأمل بعد أن يأس من العثور على الشيخ مرزوق و فيما هو يهمُّ بالتحرك بالعربة إندفع "جودة الأعور خارجا من المحل و الشرر يتقاطر من عينيه ، مررنا بالعربة من أمامه فالتقط والدي كما يلتقط الريشة " إبعد يا زبال يامعفن ، و الله لاجيب عاليها و اطيها الحارة الواطية حتى يعرفو من هو جودة" وهوى به في جانب الطريق ليرتطم بالأرض ثم هجم على الشوالات و الجرادل و أخذ يقذفها في أرجاء الحارة و رمى جردلا من الصفيح على واجهة محل المعلم إبراهيم فحطمها ثم هجم على العربة فقلبها ، إلتف حوله مجموعة من رجال الحارة يحاولون تهدئته فيما أسرعت أنا و أختي زينب نتفقد والدي الذي بدى مشدوها و هو ينظر إلينا بأسى و يداه ترتعشان ، لم يواجه طوال حياته مثل هذا اليوم المهين ، حتى الناس أحاطوا بالمجرم ليرضوه و لم يأتي أحد ليسأل عنه و كأنما هو في عداد شوالات القمامة التي تناثرت في كل شبر من الحارة ، سالت من عيني دمعة طائشة تحول معها وجه والدي إلى غضب متقد ،أمسك بالجدار من خلفة فأقتلع إحدى قطع الطوب البارزة و هو يصرخ بصوت أسمعه لأول مرة " جودة يا أعور " إلتفت جودة إلى مصدر الصوت بغضب لتستقر قطعة الطوب كالقذيفة منتصف وجهه فتفجرت الدماء من أنفه وو جنتيه ، ترنح جودة من هول المفاجأة و لم يمهله والدي فأخذ طوبة أخرى و رماه بها في أسفل بطنه ، تأوه جودة بألم ثم زمجر بغيض وإندفع بإتجاه والدي الذي أخذ بدوره يجري بإتجاه جودة وسط دهشة الجميع ، هوى جودة بكفه على صدغ والدي فطرحه أرضا ، حاول والدي النهوض فأتبعه جودة بركلة على بطنه تلوى والدي من شدة المها ، التقطه جودة بدون عناء و أمسكه من جيب ثوبه ورفعه إليه حتى حاذى وجه أبي الصغير ذقن جودة " والله لأموتك يا زبا..." و قبل أن يكمل جودة العبارة إلتقط والدي الناب العاجي من عنق جودة و غرسه في عينه السليمة بكل قوته ،أطلق جودة صرخة هائلة دوت في أرجاء الحارة و هو يطرح والدي أرضا و وضع كلتا يداه على عينه اليمنى وهو يدور و يعوي كالمسعور " ااااه ..عيني يابن الكلب ..عيني يابن الكلب... " ، جريت في خضم هذا المشهد نحو والدي الذي غطت الدماء وجهه و هو يلهث بشدة ،هرع إليه بعض الرجال ليعونوه على الوقوف و لكنه إنتصب قائما لوحده و أخذ يمسح بقع الدم التي أكتست وجهه وهو ينظر إلى جودة و هو يملأ أصدء الحارة بهيجانه و لا أحد يهب لنجدته ،إحتضنت زينب قدمه اليمنى و هي تجهش بالبكاء ، حملها بلطف ثم أخذ ينظر إلى الفوضى التي عمت الحارة ، قدم له المعلم إبراهيم جرة ماء " بل ريقك يا معلم سعدالله و متتشيلش هم أنا اللي حتولى أمر اللي حصل كله ، ينصر دينك إنت نظفت الحارة من أوسخ ما فيها....اا" حاول المعلم إبراهيم أيتدارك عبارته و لكن والدي تبسم لها و شرب من الجرة ثم إتجه نحو العربة ليعدلها فهب معه رجال الحارة و عاونوه عليها أمسك بمقبضيها و شعر كأنما هي تعاتبه أن تناسى عشرت السنين و تأبى الحركه ،أمسكت بالمقبض الأيمن " و النبي تخلي عنك يا با" نظر إلي و دمعة رقراقة إنسالت من عينه لتختلط بدماء وجهه فتداركها بكم ثوبه و أمسك زينب بيده اليسرى و أمسك المقبض باليمنى و توليت أنا مقبض العربة الاخر فتحركت معنا بسلاسة و نحن نتجه بها إلى البيت ، الناس يفسحون لنا الطريق و علامات الإمتنان تكاد تنطق من وجوههم و أفواههم لا تخلو من إسم والدي و الكن هذ المرة يرددونه بفخر " المعلم سعدالله".

  2. #2
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    طرح أكثر من قضية اجتماعية باسلوب مشوق
    وصف تفصيلي ناطق بسلاسة
    احسنت
    بوركت وتقديري

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,137
    المواضيع : 318
    الردود : 21137
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    في رأي ، وأعتقد ان هذا هو رأي الكثيرين ، أن مهنة الزبال من أشرف المهن
    التي شرفها ربي بالأجر العظيم لما يقدمه أصحابها من خدمة لمجتمعهم.
    لولاهم لعمت الشوارع القاذورات، وكثرت الأوبئة، واستحالت الحياة
    فلهم منا عظيم الشكر والامتنان.
    قصتك شدتني بقوة وعنف ، وأسلوبك السردي آثار انتباهي بما حمل من
    جزالة وشاعرية وإحساس.
    قصة إجتماعية من الواقع تشير إلى قاص متمكن من أدواته ..مهارة
    تصويرية عالية ، وأداء نصي ممتع.
    راقت لي القصة بكل ما حملت من معاني
    فشكرا لك ولقلمك الجميل. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    أفراد تقسو على بعضها بألقاب وكُنى محقّرة لا بدّ وأن يأتي العاب يوما وينتصر المظلوم على الظّالم
    سرد جاذب، وتصوير واقع إنساني يؤلم
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  5. #5
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    هل من نجيب محفوظ في واحتنا؟

    قلم مبدع بألق.. تمنيت معه فقط الاعتناء أكثر بالفصحى في مقابل العامية
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  6. #6
    الصورة الرمزية المختار محمد الدرعي أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2014
    الدولة : مكة المكرمة
    المشاركات : 509
    المواضيع : 78
    الردود : 509
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    جاءت بأسلوب شيق و سلس
    هام ما تناولته اديبنا
    شكرا للإبداع
    تحياتي

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 52
    المواضيع : 6
    الردود : 52
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلود محمد جمعة مشاهدة المشاركة
    طرح أكثر من قضية اجتماعية باسلوب مشوق
    وصف تفصيلي ناطق بسلاسة
    احسنت
    بوركت وتقديري
    أستاذة خلود ......
    شرُفتُ بمرورك الجميل

  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 52
    المواضيع : 6
    الردود : 52
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    في رأي ، وأعتقد ان هذا هو رأي الكثيرين ، أن مهنة الزبال من أشرف المهن
    التي شرفها ربي بالأجر العظيم لما يقدمه أصحابها من خدمة لمجتمعهم.
    لولاهم لعمت الشوارع القاذورات، وكثرت الأوبئة، واستحالت الحياة
    فلهم منا عظيم الشكر والامتنان.
    قصتك شدتني بقوة وعنف ، وأسلوبك السردي آثار انتباهي بما حمل من
    جزالة وشاعرية وإحساس.
    قصة إجتماعية من الواقع تشير إلى قاص متمكن من أدواته ..مهارة
    تصويرية عالية ، وأداء نصي ممتع.
    راقت لي القصة بكل ما حملت من معاني
    فشكرا لك ولقلمك الجميل. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    في خضم الصراع المادي بين البشر تتلاشى قيمة الإنسان الجوهرية أمام شكليات مبهمة باعدت المسافات وخلقت العقبات الطبقية بينهم.... سررت بمرورك الكريم

  9. #9
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    سرد ناطق وتصوير متقن ونص استحوذ على المتلقي يجبر على المتابعة الجادة حتى التتمة
    وضع كلتا يديه
    دمت مبدعا رائعا
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 52
    المواضيع : 6
    الردود : 52
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    أفراد تقسو على بعضها بألقاب وكُنى محقّرة لا بدّ وأن يأتي العاب يوما وينتصر المظلوم على الظّالم
    سرد جاذب، وتصوير واقع إنساني يؤلم
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    نعم سيدتي .. أفراد تصنع الفروقات بين البشر وتخلق الاما جديدة تعرقل جمال الحياة
    شكرا لمرورك الجميل

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ** حكايا صور **
    بواسطة نادية بوغرارة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 27
    آخر مشاركة: 19-09-2010, 02:04 AM
  2. حكايا على ضفاف الوطن
    بواسطة سارة محمد بيصر في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 03-05-2010, 12:25 AM
  3. حكايا جمال سعد
    بواسطة محمود الديدامونى في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04-10-2008, 02:03 AM
  4. حكايا الليل..............
    بواسطة حسنية تدركيت في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 02-08-2007, 11:06 AM
  5. من حكايا شتائـ (ـي/ ـها)
    بواسطة الضبابية في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 21-07-2007, 03:26 AM