حكايا الزمن
سعدالله
"سعدالله الزبال " .... هذا ما يطلقه الناس على والدي في حارتنا و في الحارات المجاورة التي يعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما ، كهل تجاوز عقده الخامس يجر عربة ذات عجلتين متوسطة الحجم بصبر و توأد يجول بها منذ الصباح الباكر بين الأزقة والطرقات يجمع قمامات البيوت و الدكاكين و يسير بها الخلاء حيث مكب النفايات ، هاديء الطباع , ملامح وجهه النحيل جامدة لا تكاد تتغير ، قليل الكلام لا يتحدث إلا لضرورة ، لم نعلم له صديقا أو قريبا يزاوره ، حتى رفقاء حرفته كل معرفته بهم لاتتجاوز هموم العمل اليومية واحوال البلد. بعد عصر كل يوم يعود والدي إلى بيتنا الصغير ، حجرة امامها باحة صغيرة في بدروم إحدى بيوتات الحارة ، نكون في انتظاره على عتبة السلالم الخارجية أنا و والدتي و شقيقتي الصغرى "زينب" و بمجرد إطلالته من مدخل الزقاق المقابل نهب أنا وزينب إليه فيمسك كل منا بمقبض من مقابض العربة " خلي عنك يا با " تداعبنا عيناه بحنان ولكن يداه تأبى مفارقت المقبضين و كأنما إلتحمتا فيهما و تأبيا مفارقتهما ، يبادر أمي بالسلام :
- " العوافي يا فاطمة "
- "الله يعافيك يا بو محمد ..إزاي يومك"
يكتفي بإماءة رضا يهز بها رأسه ، يمضي جل وقته في المنزل بجانب المذياع ، لم أذكر أنه نهرني أوأختي زينب قط بل يكتفي بتعليقات بسيطة او إشارة بيد نتقبلها دوما بصدر رحب ، يتسرب إليه النوم على غفلة و هو يستمع إلى المذياع ،تنبهه أمي فينظر إلينا ليرى إن كنا لاحظنا ذلك ، يؤي إلى فراشه وقد أخذ منه التعب كل مأخذ فلا يستيقظ إلا على أذان الفجر. يصحبنا معه في الصباح إلى المدرسة و في الطريق يتوقف في منتصف الحارة فيهرع إليه صبية الدكاكين و المحلات بشوالات و جرادل القمامة ، لم يكن يحادث أي منهم و لا معلميهم أصحاب الدكاكين و المحلات ، في الماضي كان يلقي السلام و لا يجد من يرد عليه كأنه غيرموجود فآثر معاملتهم بالمثل ، يسير بنا نحو مدرسة زينب فيتوقف بالعربة بعيد عن باب المدرسة , يمسكها من يدها بلطف و يأخذها حتى باب المدرسة ، يفعل الشيء نفسه معي و بعد ذلك أراه و قد أغذ في السير تتبعه عربته و لا يلتفت أبداً.
ذات يوم إشتبكت في عراك مع بعض أقراني في المنعطف المواجه لمنزلنا و ترافق ذلك مع عودته يجر عربته بتأنيه المعتاد ،سمع أحد الصبية و هو يصرخ في " ما بقاش إلا أنت يا ابن الزبال يا معفن يا واكلين الزبالة يا......." صمت فجأةً فور رؤيته لوالدي فأطلق ساقيه مع بقية الصبية للريح، أوقف والدي العربة و حرر يديه من مقبضيها و أشار إلي فقدمت إليه و انا انفض الغبار عن ثيابي و أخذ يتفقدني برفق و يسترق النظر إلى عيني يبحث عن أثر للحزن فيهما فلا يجده كوني إعتدت على الأمر منذ وقت طويل و أينما حللت تظل مهنة والدي هي كنيتي اللصيقة في السراء و الضراء و لكن و جه والدي تبدل من تلك الليلة و بدأ حزينا عابسا طوال المساء حتى لاحظت والدتي ذلك ،
-مالك يا بو محمد ، وشك مقلوب كده ليه
-من بكره حدور لي على شغلانة ثانية
-ليه كفالله الشر ، نطقت والدتي بذلك و و الدهشة ترتسم على وجهها الصغير
-أنا من بكرة حأكلم الشيخ مرزوق أشاوره و خليه يشوف لي شغلانة عند حد من معارفه.
في الصباح سرنا في طريقنا المعتاد و يدا والدي تسمرتا على مقابضها يشدهما بشراسة ، فبادرت لأمسك أحد المقابض لأعاونه في سحبها فدفعني بغلظة
-ياك تقرَّب منها مرة ثانية
إرتعش جسدي من ردة فعله التي لم أعهدها يوما ، توقف في منتصف الحارة فأنهالت الجرادل و الشوالات على العربة كعادتها فيما ظلت عيناه تبحث عن الشيخ مرزوق ، من بعيد لمحتُ المعلم "إبراهيم العطار " و هو يصغي بحنق لـ " جودة الأعور" بلطجي كريه السمعة في حارتنا و الحارات المجاورة ، يغيب في السجون فترات طويلة ثم يعود بعد ذلك يمارس طغيانه من جديد ، شاب طويل عينه اليسرى مطموسة و يخفيها برقعة سوداء يربطها بمؤخرة رأسه المنكوش الشعر مما يزيد وجهه الأسمر شراسة و رعباً ،واسع الصدر ،يرتدي حول عنقه القصير قلادة سواداء ينتصف فيها ناب عاجي أبيض مدبب الرأس ، ظللت أتابع حوارهما الصامت الذي زادت حدته فيما ذهب والدي يبحث عن الشيخ مرزوق قي المقهى المقابل ، لا بد أن "جودة" عاد يجمع الإتاوات كعادته في كل مرة يخرج فيها من السجن ، رجع والدي تظله سحابة من خيبة الأمل بعد أن يأس من العثور على الشيخ مرزوق و فيما هو يهمُّ بالتحرك بالعربة إندفع "جودة الأعور خارجا من المحل و الشرر يتقاطر من عينيه ، مررنا بالعربة من أمامه فالتقط والدي كما يلتقط الريشة " إبعد يا زبال يامعفن ، و الله لاجيب عاليها و اطيها الحارة الواطية حتى يعرفو من هو جودة" وهوى به في جانب الطريق ليرتطم بالأرض ثم هجم على الشوالات و الجرادل و أخذ يقذفها في أرجاء الحارة و رمى جردلا من الصفيح على واجهة محل المعلم إبراهيم فحطمها ثم هجم على العربة فقلبها ، إلتف حوله مجموعة من رجال الحارة يحاولون تهدئته فيما أسرعت أنا و أختي زينب نتفقد والدي الذي بدى مشدوها و هو ينظر إلينا بأسى و يداه ترتعشان ، لم يواجه طوال حياته مثل هذا اليوم المهين ، حتى الناس أحاطوا بالمجرم ليرضوه و لم يأتي أحد ليسأل عنه و كأنما هو في عداد شوالات القمامة التي تناثرت في كل شبر من الحارة ، سالت من عيني دمعة طائشة تحول معها وجه والدي إلى غضب متقد ،أمسك بالجدار من خلفة فأقتلع إحدى قطع الطوب البارزة و هو يصرخ بصوت أسمعه لأول مرة " جودة يا أعور " إلتفت جودة إلى مصدر الصوت بغضب لتستقر قطعة الطوب كالقذيفة منتصف وجهه فتفجرت الدماء من أنفه وو جنتيه ، ترنح جودة من هول المفاجأة و لم يمهله والدي فأخذ طوبة أخرى و رماه بها في أسفل بطنه ، تأوه جودة بألم ثم زمجر بغيض وإندفع بإتجاه والدي الذي أخذ بدوره يجري بإتجاه جودة وسط دهشة الجميع ، هوى جودة بكفه على صدغ والدي فطرحه أرضا ، حاول والدي النهوض فأتبعه جودة بركلة على بطنه تلوى والدي من شدة المها ، التقطه جودة بدون عناء و أمسكه من جيب ثوبه ورفعه إليه حتى حاذى وجه أبي الصغير ذقن جودة " والله لأموتك يا زبا..." و قبل أن يكمل جودة العبارة إلتقط والدي الناب العاجي من عنق جودة و غرسه في عينه السليمة بكل قوته ،أطلق جودة صرخة هائلة دوت في أرجاء الحارة و هو يطرح والدي أرضا و وضع كلتا يداه على عينه اليمنى وهو يدور و يعوي كالمسعور " ااااه ..عيني يابن الكلب ..عيني يابن الكلب... " ، جريت في خضم هذا المشهد نحو والدي الذي غطت الدماء وجهه و هو يلهث بشدة ،هرع إليه بعض الرجال ليعونوه على الوقوف و لكنه إنتصب قائما لوحده و أخذ يمسح بقع الدم التي أكتست وجهه وهو ينظر إلى جودة و هو يملأ أصدء الحارة بهيجانه و لا أحد يهب لنجدته ،إحتضنت زينب قدمه اليمنى و هي تجهش بالبكاء ، حملها بلطف ثم أخذ ينظر إلى الفوضى التي عمت الحارة ، قدم له المعلم إبراهيم جرة ماء " بل ريقك يا معلم سعدالله و متتشيلش هم أنا اللي حتولى أمر اللي حصل كله ، ينصر دينك إنت نظفت الحارة من أوسخ ما فيها....اا" حاول المعلم إبراهيم أيتدارك عبارته و لكن والدي تبسم لها و شرب من الجرة ثم إتجه نحو العربة ليعدلها فهب معه رجال الحارة و عاونوه عليها أمسك بمقبضيها و شعر كأنما هي تعاتبه أن تناسى عشرت السنين و تأبى الحركه ،أمسكت بالمقبض الأيمن " و النبي تخلي عنك يا با" نظر إلي و دمعة رقراقة إنسالت من عينه لتختلط بدماء وجهه فتداركها بكم ثوبه و أمسك زينب بيده اليسرى و أمسك المقبض باليمنى و توليت أنا مقبض العربة الاخر فتحركت معنا بسلاسة و نحن نتجه بها إلى البيت ، الناس يفسحون لنا الطريق و علامات الإمتنان تكاد تنطق من وجوههم و أفواههم لا تخلو من إسم والدي و الكن هذ المرة يرددونه بفخر " المعلم سعدالله".