شُرْفَةُ الحُبْ
فجأةً وَجَدَ نَفسَهُ وسْطَ الظَّلامِ مُتَسَمِراً على حائطِ السُّور أَسْفلِ شُرْفَتِها , يُحِيطُ به سُكونٌ تام و هو يحاوِلُ بٍجُهد أن يَضْبِطَ وتيرةَ أنفاسه المُتَسارعة , لا يدْري كيف بدأ الأمر و كيف وصل إلى هنا؟! , ما الذي يحاول فِعْلَهُ في مَثْلِ هذا الزمان و هذا المكان؟! , أتُرَاهُ يَنْوي أخيراً أن يَقْتَحِمَ عليها حياتَها و يُشْعِرَها بِحَقِّه بالوُجوُدِ فيها , فهذا ما كان يَجُولُ في خاطِرِهِ قبل أن يَجِدَ نفسهُ مُتَوَثِّباً ظَهْرَ هذا الحائطِ , ولكن كيف واتتهُ الجرأة على فِعْلِ مِثلِ هذا الأمر و هو الذي يتردَدُ خَجِلاً في إلقاءِ التحيةِ عليها كُلَّما اصطدمت عيناهُ بَوَهْجِ مُقْلَتيها في الطريق , بل و يخشى أن يخْتَلِسَ النَّظَرَ إليها من خَلْف نافِذَةِ حُجْرَتِه المُقَابِلة لشُرْفَتِها , كيف أُرْغمت مَبَادِئهُ على الانصياع لِنَزَواتهِ بهذه السهولة , و ماذا عنها؟ هل ستستقبلُ غارَتَهُ الليلية و استَباحَتُهُ لحُرْمَتِها بتعابيرها المُحايِدة كعادتها في كل مرة يلتقيها أم سَتَلْبسُ قِنَاعاً جديداً هذه المرة يُفصِحُ عن مَكْنُونِ لُـبِّها و خَلَجاتِ نفسِها تِجاهَه , و ما عسى أن يَقولَ هُوَ إذا ما استنطقته عيناها ؟.....
اضْطَرمتْ تلك الأفكارُ و التَّسِاؤلات داخلَ رأسهِ , خَنَقه السكونُ الثقيل , كتم أَنِينهُ في نَفْسِه , ما كان ليحدث كلَّ هذا لولا هالةُ الغموضِ التي تُحيطُ نَفْسَهَا بِها و التي تحولُ دون عثورهِ على مَوْرِدٍ يَنْفُذُ عَبْرَه إلى أعمَاقِها علَّهُ يَجِدُ هُناك ما يُشَيرُ إليه , ولكن ها هوَ قد طَالَ عليهِ الأَمدُ و لم يَحْظَ بما يُريد فغَلَبتْهُ شَقْوَتُهَ و امْتَطَى سوادَ الليل لِيطْرِقَ باب وَصْلِها على نَهْجِ عشاق الليل لعله يَحوزُ منها ما يشفي به الغَلِيل ويُرِيحُ فُؤاده الكَلِيل.
وفيما هو يَجُوس بين أفكارِه انْبَجَسَ يَنْبُوعٌ من الضَّوء مُخْتَرِقاً حاجِزَ الظَّلام أجْبَرَهُ على الكُمُونِ في موضِعِه فوقَ حائِطِ السُور ,لاحَ لَهُ طَيْفُهَا مُنْتَصِباً على الشُرْفة ,أشْرَعَتْ ذراعيها تحْتَضِنَ نَسائمَ الليل الرقيقة , اتَّكأت على حَاجِزِ الشُّرفةِ المَعْدِني , أخَذَ يتَوَسلَ شَجَاعَتَهُ في أن يظْهرَ لها فَجَبُنَتْ عنه , خشي إن أفْصَحَ عن وُجُودِه أن تُباغِتَه بمَا لم يَكُن في حُسْبانِه فآثرَ الجُثُومَ في مَكْمَنِه حتى يفْصِلَ الله في أمْرِه , أرْخَى رأْسَهُ و أغْمَضَ عيْنَيْه خَشْيةَ أن تَدُلَّاها على وجوده , يكتنفه شعور بالحنق و الندم معاَ, يغيظهُ أن يَجْتمِعا وحدهما في ذات الزمان و المكان ويَقْصُرُ عنْ أنْ يبوحَ لها بدفينِ قلْبِه و اِلْتِيَاعِه , شَمِتَتْ نَفْسُهُ بِحَالِه فرَدَدَت :
بِاللَهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ حَدِّثنَني
حَقّاً أَما تَعجَبنَ مِن هَذا الفَتى
الداخِلِ البَيتَ الشَديدَ حِجابُهُ
في غَيرِ ميعادٍ أَما يَخشى الرَدى
كانت تَنْظُرُ من شُرْفَتِها نَاحِيةِ نافذة غُرفَتِهِ بِعُمْق تستجدي خيالها ليوحي لها بالمزيد عنه مُتوَسلةً له بطول انتظارها و لَوْعَةِ فُؤادِها لعلها تَسْتَبينُ سَبيلَ هذا الحب طَالَما احْجَمَ هو عنْ رفْعِ رايتهِ و آثَرَ طَرَفَ الحِياد عن التَّضْحيةِ في سبيلِهْ.
عادتْ لغُرفَتها بعد أن أَغْلَقتْ بابَ الشُرْفَة , جَلَسَتْ على مِنْضَدَتها , نظرت إلى ما كانت تّكْتُبُه , تبسمت عند بيت الشِّعْرِ الأخير, فتابعت الكِتَابَة :
فَأَجَبتُها إِنَّ المُحِبَّ مُعَوَّدٌ
بِلِقاءِ مَن يَهوى وَإِن خافَ العِدى