ثلاثة كوابيس وصحوة
د. وليد الصراف / العراق
خديعة
برغم تحذير أمي الشديد اللهجة
- إ يّاك ان تتجاوز عتبة الباب
استجبت لهذه الفتاة وانا العب وراء الباب نصف المفتوح
- تعال لاتخف
- ولكن امي لاتقبل
- سأعيدك الى بيتكم قبل ان تنتبه أمك
- الى اين تأخذيني
- الى حيث أشتري لك حلوى لاأطيب منها
كان شعرها طويلا وعيناها عميقتين وابتسامتها ساحرة وكان وعدها بالحلوى اكثر اغراء من تحذير أمي لذا اندفعت اليها فحملتني بين ذراعيها وقبّلتني وسارت بي حيث عبرت الشارع ، كانت تكلمني كما تكلم حمامة فرخها الصغير
- انظر ، هذا بستان نارنج ، هل سبق لك ان رأيت النارنج وهذه اشارة مرور ، وهذه مدرسة وهذا ...
كانت تعلمني أسماء ومعاني أشياء لاأعرف عنها شيئا فلم يسبق لي ان خرجت من بيتنا قبل ذلك ، وسارت بي مسافة طويلة نسيت خلالها بيتنا وتحذير أمي ، وفجأة أنزلتني
- لقد أصبحت ثقيلاً
وأمسكت بي من يدي ومشينا ، كانت تشرح لي عن كل ما نصادفه في الطريق ، وكنت كلما ابتعدت بي خطوة اخرى ابتعدت ذاكرتي عن أمي وبيتنا ذراعاً آخر . قالت على الرغم من انني لم أسألها وكنت قد نسيت تماماً موضوع الحلوى
- بقيت خطوات ونصل الدكان الذي سأشتري لك منه الحلوى ، انظر ، هذا جامع ، اذا ضعت مني إذهب اليه
ومازالت تسير بي حتى وصلنا الدكان
- انتظرني هنا ، دقائق وأعود بالنقود التي سنشتري بها الحلوى واندسّت في الزحام وانا واقف انتظر . مرّت دقائق وايام واسابيع واشهر وسنوات كنت خلالها أخاف ان اغادر المكان خشية ان تأتي ولا تراني ، مسمّراً كأنني تمثال ، انظر بضراعة الى البقال ، وفي يوم ما ضاق البقال
- ماذا وقوفك ؟ اذب ودعنا نر رزقنا
- ولكن الحلوى
- اية حلوى ، أمجنون انت ، اذهب
وطردني ومشيت ، خصوصاً أنني كنت قد يئست تماما من عودتها ، فكرت ببيتنا القديم وأمي وتحذيرها الشديد اللهجة ، أصبحت العودة الى البيت مستحيلة بعد ان ضاع الطريق اليه ومرّت كل تلك السنوات . ثم تذكرت وجه الفتاةكم كان جميلا والحلم بالحلوى كم كان ساحرا ، واخذت أخبط في الطرقات دون هدى وانا انتحب انتحاب طفل أضاع أبويه ، بالرغم من أنني كنت قد تجاوزت الطفولة ، بعشرات السنين .
سباق مائة متر مارثون
أشارت اليد في لحظة ما فانطلقنا راكضين ، انا وهو في الساحة المخططة المقسومة بعدالة إلى سبيلين متساويين تماما في المساحة ، هيّأت لنا اليد التي أشارت فرصة عادلة في الزمان ، والخط الذي يقسم الساحة إلى سبيلين فرصة عادلة في المكان المليء بالموانع المتشابهة تماما ، نقطة الانطلاق نظرة ، نظرتنا اليها وخط النهاية مرسوم على شكل قلب ، قلبها .
ركضنا ..
قالوا انه سباق مائة متر في ملعب خال من الجمهور ، وبعد مئات الامتار اكتشفت انه سباق ماراثون وان الملعب يمتلئ بالجمهور تدريجياً . ظهر متسابقون جدد في الطريق واكتشفت سذاجتي حين توهمت العدالة ، نعم انطلقنا من لحظة واحدة ولكن ساحتي اوعر من ساحته وموانعها اعلى واكثر .
سبقنا انا وهو كل الذين عنّوا لنا في الطريق والذين لم يكونوا مهيئين ولم يكن لديهم القابلية على هذا الماراثون رغم المنشطات التي تناولوها قبل السباق .
غصّ الملعب بالجمهور واخذت اسمع اسمه مقرونا بالتشجيع واسمي مقرونا بالاستهزاء والشتائم ، لم أبال ، بقيت اركض في هذه الساحة العجيبة التي لم تنهكني موانعها الاعلى ولا استنكار جمهورها ، كنت التفت وانا اركض والجمهور يظن اني التفت لأقدر المسافة التي بيني وبين غريمي فيزيد من بذاءة شتائمه ، لم يكن غريمي يخطر لي على بال ، كنت لا أراه، وكان التفاتي لسبب آخر لاأعرف ما هو على وجه التحديد ، بقيت أركض كأن قوة الف حصان اندسّت في جسدي وارواح آلاف الفرسان النبلاء الغاضبين اندست في روحي ، شعرت ان وعورة الساحة التي تخصني وموانعها الأعلى والأكثر قد بدأت تثير اشمئزازي ، خصوصا وانا أرى ساحته قد بدأت تخلو من الموانع وتنفسح كطريق ممهّد .
الجمهور نفسه بدأ يخرج على قواعد اللعبة ويدخل ساحتي ليعيقني ، لم أبال ، بقيت اركض ، نهارات تعرّت ، ليال وضعت الحجاب وانا أركض ، انضح عرقا وحبرا ودمعا وغريمي يركض فلا ينضح منه سوى عرق نتن وصلتني نتانته فزادت من اشمئزازي ، كل ذلك والجمهور باق مصرّ على متابعة السباق كأنه لاشأن له في الحياة سوانا
اقترب خط النهاية ولاح القلب المخطط المحفور على التراب ، كنت اركض رغم التعب الشديد الذي بدأ يظهر عليّ وكان يركض ورائي بمسافة طويلة ، استنتجت طولها من اختفاء اصوات قدميه من ورائي .
بقيت خطوة واحدة واضع قدمي على القلب ، كان الجمهور قد صمت تماما وبدأت احس بحياديقة بل بتغير موقفه تجاهي ، واذن سأدوس على القلب وأربح الجائزة ، ولكن هل افعلها ؟ هل أدوس عليه وانا اعرف انه قلبها ؟ ترددت وبدأت ادور حول القلب المخطط الموزع بالتساوي على نهايتي ساحتينا وانا أرتاب باللعبة كلها وأفسر صمت الجمهور على انه مؤامرة تحاك ضدي ، أدور حوله والملعب صامت والساعات متوقفة عن العمل والكون كله متوقف عن الدوران متلهف لمعرفة ما سأفعل اذ كانت المباراة تنقل بالاقمار الصناعية ، بل شعرت ان الموتى في مقابرهم والأجنة والنطف في مملكة الغيب تتابعني بلهفة ، وفي اللحظة التي قررت ان أحسم ترددي فيها لم أشعر الابيد تدفعني وتسقطني أرضاً بعيدا عن الساحتين معا وبقدم تدوس على القلب في الصميم .
في اللحظة التي افقت فيها من ذهولي كانت عيني تواجه ما هو أقسى من العمى وهي تراه على المدرج ، وحبيبتي ، حبيبتي الوحيدة تعانقه وتضع على عنقه قلادة الفوز وكانت اذني تواجه ما هو اقسى من الصمم وهي تسمع الجمهور يهتف له ولها . واخذت ابحث في آلاف الطرق المتشابكة التي انداحت امامي من المشاهد والاصوات والألوان ولهجات المعلّقين والكاميرات ونداءات حرّاس المقابر وروائح صالات الولادة و ... أخذت ابحث عن باب للخروج وعن قبر لمواراة عاري الذي سيبقى يصاحبني حتى الأبد .
الغريب
كنت قد خاصمت مها واتهمتها بأشياء فظيعة لم أكن متأكداً انها فعلتها ثم ندمت ندماً قاتلاً وانتابني ضجر شديد ، ضجر اقفل بوجه الحواس بابي التآلف والهدوء ، فلم استطع معه ان اتحدث إلى احد ، أو افتح كتاباً أو اتفرج على التلفزيون ، أو حتى اقلب البوماتي متأملاً صوري القديمة .. لذا ارتديت ملابسي وخرجت من البيت علّني اسري عن نفسي أو اجد حلاًّ وصلت السوق ، مشيت غير قليل ، حتى انتبهت إلى ما أذهلني .. الناس تسير باتجاه واحد وهو الاتجاه الذي أسير اليه ، لااحد يسير إلى الجهة الاخرى من المدينة .. الشارع مكتظ بالسيارات والدراجات الهوائية والبخارية والعربات التي تجرها الحصن وجميعها تسير بالاتجاه ذاته ، حتى الشارع المخصص للسير بالاتجاه المعاكس تشغله العربات والسابلة التي تسير بالاتجاه ذاته .
ما هذا الذي يحصل ؟
السواق تشي بعصبيتهم الابواق التي يطلقونها كل لحظة مجتازاً احدهم الاخر ، سير السابلة اقرب إلى الهرولة منه إلى المشي ، الشخص الوحيد الواقف ينظم السير وكأنه يخربه هو شرطي المرور .
كيف يسكت على هذه المهزلة ؟
الجهة الاخرى مكتظة بالمقاهي والسينمات ومحلات الالبسة والعطور والمكتبات والجوامع ودكاكين الخضراوات والبيوت و..... ولا احد يقصدها بل الجميع يسيرون مبتعدين عنها في سباق لم افهم منه شيئاً ماهذا الذي يحصل ؟
تجاسرت وعبرت الشارع إلى شرطي المرور ، بصعوبة وصلت اليه
- من فضلك ماهذا الذي يحصل ؟
- سر بسرعة ، الجميع يسيرون
- ولماذا انت واقف إذن ؟
- انا الآخر سأسير بعد دقائق بعد ان اطمئن على المشهد .
- بهذا الاتجاه
- نعم بهذا الاتجاه
- لماذا ؟
- لاتسأل ، سر .
ماهذا ؟ جنون ، جنون ، حتى هذا الرجل الذي ينبغي ان يكون عاقلاً وينظم السير يشترك بهذه المهزلة ، رجعت إلى الرصيف وقررت ان أسير بالاتجاه المعاكس لسبب لم أتبينه في هذه اللحظة ، قد يكون مخالفة المألوف ، وقد يكون وفاء للجهة الأخرى من المدينة أو زهداً بالمنافع التي لابد سيجنيها الناس اذا واصلوا السير بهذا الاتجاه ، سبب لااعرفه ولكنه كان من القوة بحيث دعاني للسير بعكس اتجاه هؤلاء المجانين . وما إن خطوت الخطوة الاولى حتى هدر صوت شرطي المرور
- ارجع
صرخ صرخة تقلع الشجرة من جذورها رغم ذلك لم يلتفت اليه أحد ، وحدي سمعته وتغاظيت مواصلاً سيري ، فجاءت الصرخة الثانية أقوى
- ارجع والاّ أطلقت النار .
رجعت وانا خائف ، أسير مع الناس مضمراً السير بالاتجاه المعاكس بعد ان يذهب شرطي المرور هذا ، اما قال إنه سيسير بعد دقائق ، فجاءت الصرخة الثالثة .
- اذا حاولت مرة اخرى ستسحقك العجلات والاقدام ، كل واحد من المارة سيقوم بدوري تجاهك .
عجباً ، كيف عرف ما أفكر فيه ؟ واصلت سيري مع الناس وانا الأبطأ فيهم ، حتى المعوقون كانوا يسيرون أسرع مني ، ولا أدري من اين أتتهم هذه القوة الاضافية .
ولكن لماذا ؟
ينبغي ان افهم في الاقل ، فليس من المعقول ان يكون هؤلاء كلهم مجانين ، سألت أقربهم إليّ
- من فضلك إلى أين أنتم ذاهبون ؟ أهي مؤامرة احتجاج على أمر ما ؟
- لا
- أهو كنز اكتشف في هذا الجانب من المدينة ؟
- لا
- أهو بركان سينفجر في الجانب الآخر حذّر علماء الارصاد منه؟
- لا
قالها واجتازني . فسألت أقرب شخص اخذ مكانه قربي وكانت إمرأة
- ألأنّكِ رأيت الناس يسيرون بهذا الاتجاه تسيرين أنت ؟
- لا
- إذن فلكِ شأن خاص ؟
- لا
- كأن يكون مقابلة نجم سينمائي
- لا
قالتها واجتازتني فتضاعفت حيرتي وأحسست بيأس جامح وغربة قاتلة ، رأيت على مقربة بابَ مقهى مفتوحاً ، هذا آخر مقهى في المدينة بصعوبة اجتزت تيار السابلة ودخلته ، إطمأنت نفسي وأنا أرى ثلة من الناس يجلسون فيه ، يدخنون ويشربون الشاي وشلّت المفاجأة تفكيري وانا أرى ام كلثوم ، نعم ام كلثوم بشحمها ولحمها تغني لهم وجهاً لوجه بلا مكرفون ، عجباً ، الم تمت هذه السيدة منذ سنوات ؟ طلبت شاياً وأخذت أصغي اليها وأترنح كما يترنحون ، وخفت كثيراً من ان يدخل علينا احد كأن يكون شرطي المرور مثلاً ويجرنا إلى الشارع نمشي كما يمشي الآخرون ، الأغبياء ، لماذا لايستغلون هذه الفرصة النادرة التي يرون فيها ام كلثوم وجهاً لوجه ويسمعونها أذناً لحنجرة بلا جهاز وسيط .
لسه فاكر قلبي يدّيلك أمان .. ولّه فاكر كلمة حتعيد اللي كان ، ولاّ نظرة توصل الشوق بالحنان ... لسه فاكر كان زمان كان زمان ، لسه فاكر كان زمان كان زمان تررن تن تن ترررن ترن ترن تررن تن تن ترننو ......... الله الله يا أم كلثوم ، أخذت اترنح وكأني استقيت خمر الارض كله من صوتها ، أسكرني صوتها ولن أفيق ، اعرف نفسي سأبقى سكران وسأتذكر مها ، أخذت استعيد أياماً من علاقتي بها بنقاء الدموع والكريستال ، فجأة رأيت الناس يدفعون حسابهم ويخرجون ملتحقين بالركب ، والموسيقيين يحزمون كمنجاتهم ويلتحقون بالركب ، كانت أم كلثوم آخر من غادر المقهى ، لحقت بها
- من فضلك اريد إمضاءً على هذه الورقة .
- أأنت مجنون ؟
- لماذا ؟ ظننتك متواضعة .
- أنا ميتة يامجنون والأموات لايوقعون .
قالتها والتحقت بالركب حاولت ان ادخل المقهى مرة اخرى الا ان صاحبه منعني من الدخول وأقفله والتحق بالركب .
مشيت ملتحقاً بالركب يدفعني من هب ودب مجتازاً محلات ومطاعم ودوائر رسمية موصدة ، مشيت مسافة طويلة وانا خاوٍ تماماً من الداخل حتى شعرت بيد تربت على كتفي
- مها حبيبتي
- حبيبي الوحيد
- أتعلمين كم انا نادم على
قاطعتني - لا تقل شيئاً الندم يقتلني انا ياحبيبي
- ألست غاضبة مني
- كيف اغضب من الرجل الوحيد على الارض الذي أحسست انني امرأة معه
- لابد ان نتزوج
وجاءت صرخة عظيمة من ورائي
- ألم أهددك باطلاق النار ، اتظنني أمزح ؟
التفت فوجدت شرطي المرور يمشي مع السابلة على الرصيف
- امشِ
مشيت مذعوراً وانا مستغرب ، فوجه شرطي المرور ظهرت عليه تجاعيد لم تكن موجودة قبل دقائق وبان الشيب واضحاً في رأسه ، مشيت مذعوراً ومشت مها ، دفعتنا امواج السابلة بعيداً عن بعضنا ، والتقت أعيننا لقاءً أخيراً قبل ان نفترق تماما ، لمحت في عينيها دمعتين ، انا الآخر بكيت وقد غابت عن نظري ، سأكمل الطريق وحيداً منفرداً كما بدأته ،بقينا نسير، اختفت البنايات ولاحت الارض اليباب وما هي الا خطوات حتى بدت مقبرة المدينة الواسعة ، الناس الذين أمامي يسدون الافق ، ورائي ايضا ناس يسدون الافق من كل الجهات بشر كالجراد يسيرون باتجاه مقبرة المدينة ويجتازونها الى ما لاأدري . والمشكلة انني لااعرف ماذا دها الناس هذا اليوم ولماذا يغادرون المدينة باتجاه مقبرتها ويغادرون مقبرتها الى ما لاأدري .
والمشكلة انني مضطر للسير معهم ولا أملك أي خيار آخر ، والاّ سحقتني العجلات والأقدام .
******
صحوت, لا أدري أصحوت من نوم أم من صحو , وإذا كنت قد صحوت من نوم فلا أدري أكنت فيه مغمض العينين أم مفتوحهما .
الذي أدريه أنني صحوت وأنا على يقين أنني سأفوز في السباق وسأسير في الإتجاه الصحيح ومعي وخلفي وأمامي جميع من أحب حتى نبلغ .....