خلف الستار؛ أجلس وحيدًا ، أنعى نفسي الخاطئة ، أنعي ما تبقى مني ، خلف ستار الصمت أجلس بخجل ؛ أجلس وحيدًا ما بين عجزي و قلة حيلتي ، أبحثُ عني بين ركام نفسي ؛ أبحثُ عن سبب يجعلني أبرر سكوتي وصمتي على جرح أهلي ، على غزة هاشم ؛ يا جرح أعبث كما تشاء في قلبي ، فلم يبقَ فيه ما يشعرني بأنّني حيّ ، يا جرح لم يبقى مني ما تشتهيه ؛ فدع عنك الانتظار، وخذْ مني ما شئت وكما تحب ، واقضِ فيّ بحكمك العادل ، وادخل في البطين الأيسر أو الأيمن ، ولا تنسَ في طريقك أنْ تسدّ هذا الأبهر ، فها أنذا أموت في غزة ، ها أنذا أموت مرات ومرات فوق صفيح اللهب ، وتحت ركام الحجر ، أجلس مشدوهًا من قلة حيلتي وهوان غزة على نفسي .
لا تعتذر بعد اليوم لنفسك ، لا تعتذر لي عن ما جنته يداي على نفسي ، فخذْ يا جرح ما شئت ؛ وسرْ إلى أي طفل في غزة ؛ شرفت يومًا بسماع اسمه ، أو برؤية وجهه الباكي على حالنا ، خذْ له ما يحتاجه ، وليتمنى عليّ ما يريد ، فأنا لا أستحق أنْ أنتسب إليه بعد الآن ، لا أستحق يا جرح العيش بعد الآن ، فخذ لهذا الطفل أو تلك الطفلة من دماءنا التي تخثرت تحت أقدام حكامنا وعجزنا ،خذْ لهم ما شئت ؛ لعلّهم يسامحوننا على هذا الخذلان الذي فاض عن حدّه ليصل إلى عنان السماء ، خذْ لهم يا جرح ما تبقى من أعمارنا ، تلك التي حُسبت علينا وحُسبنا عليها ظلمًا؛ فظننا لوهلة بأنّنا نستحق الحياة ، وبأنّنا فعلًا نحيا في هذه الدنيا ؛ فتجرأنا على واقعنا المخزي وسميّناها حياة ، خذْ يا جرح لأطفال غزة من دموعنا ودماءنا تلك التي لم نعدْ بحاجة إليها ، خذها لهم يا جرح ؛ خذها لهم مع باقة قلب ، تحمل اعتذارًا بحجم السماء ، وبحجم عزهم وشرفهم ، وبحجم تطاولنا على تضحياتهم ، خذها لهم يا جرح لعلّنا نكفّر عن سكوتنا ، وقصر قامتنا أمام شموخ مجدهم، خذْ لهم ما تريد منا وما لم نعد بحاجة إليه في هذه الحياة التي لا نستحقها ؛ خذْها لهم واسأل العدنان ؛ اسأله يا جرح هل هو غاضب منا ، خذها لهم وقل لأحمد لأسد الاجتياحات ، هلّا سامحتنا يا عدنان البحيصي ؟، خذها و قل لعريس الشهداء ؛ هل تسمح لنا أنْ نعانق ترابًا انهال فوق وجنتيك الطاهرة ، وحديدًا قطّع لحمك الطاهر؛ صنعناه بأيدينا الملوثة بصمت جارف عصف ببقايا حياءنا ، وكشف ما تبقَ من عوراتنا ، قل لأحمد يا جرح ؛ قل للعدنان وأصحابه : أنْ سامحونا إذا ما شمّمنا رائحة المسك التي تفوح منهم رغم نفور المسك من رائحتنا ، قل لهم يا جرح أنّ تمسكنا بهذه الحياة قد كشف خاصرتهم ، وبلغ منها عدوهم إليهم ، قل لهم يا جرح أنّ خبزنا وعارنا ودمنا قد اختلط ببعضه البعض فأصبح سواء إنْ لم يسامحوننا ، قل لأحمد وأصحابه أنْ طيبوا نفسًا ، فلهم جنات الخلد ، ولنا عارنا الذي لنْ يمحى إلا بدم يوافق كمًا وعددًا وزيادة ؛ ما سال من دمائهم الزكية ، قل لهم أيضًا يا جرح أنّنا و مهما فعلنا فلن نبلغ شرف الوصول إلى مرتبتهم ، قل لهم أنْ يسامحوننا يا جرح ، قل للتراب الذي تعمّد بدمائهم ، قل للحجر الحزين الذي انهال بشرف فوق رؤوسهم ، قل للحديد والشجر والدواب ، قل للجبال و للدنيا كلها ؛ قل لهم يا جرح أنّنا شاهدنا وسمعنا ولم نفعل شيئًا ، قل للغيث الذي انهمر فوق جرحهم الطاهر ليزداد طهرًا ونقاءً قل لهم بأنّ هذه ليست دموعنا ، إنّما هي رحمة الله التي لولاهم ولو لا الأطفال الرضع والشيوخ الركع ، والنساء الصابرات المحتسبات في غزة ، لولاهم لما نزل الغيث ، لما نزل أيها الجرح .
قل لأحمد العدنان وصحبه ، قل للوجوه الجميلة البريئة ، قل لقلوبهم الطيبة التقية، قل لأيديهم الشريفة ، قل لأرجلهم التي خطت وسارت بكل ثقة وإيمان في دروب الجهاد الوعرة ، في دروب عبّدت بألغام العدو والشقيق ، عبّدت بألغام لم يملكوا لها يومًا خارطة أو بوصلة لتكشف لهم زيف ونفاق المحيطين بهم ، لم يملكوا يا جرح سوى إيمانهم بالله و بعدالة قضيتهم ، وحُسن توكلهم على ربهم ، قل لأناس رضيت بما قسم الله لها ، قل لهم يا جرح بأنْ يسمحوا لنا بأنْ نرثي أنفسنا، وبأنْ نبكي ضعفنا رغم علمنا بأنّ طيبتهم لن تسمح لنا بأنْ نأكل أنفسنا ، أرأيت يا جرح إلى أي حدّ هم أطيب منا ، فهم أجمل منا يا جرح ، هم والله خير منا ، فاذهب إليهم ، وقل لهم على خجل وحياء ، قل لهم بربك ؛ قل لهم أنّنا بحبهم والله نحبهم ، والله نحبهم .