والدي العزيز ..
أكتبُ إليكَ , وأدري بأنْ ليسَ ثمّةَ هناكَ جدوى مِنْ كتابةِ رسالةٍ على هذا القدر مِنَ الألم والشكوى , لرجلٍ ما عادَ هنا ليقرأني . ولكنها هيَ الحاجةُ إليكَ يا أبي , غالبْتُها فَغَلَبَتْني .
أبي يا أبي .. أدري بأنكَ عاتبٌ عَليَّ أشدَّ العتبْ , وأدري بأنكَ حَيثُ أنتَ الآنْ , تعيشُ بين مِطرقة التعجب وسندان الإستفهام , لأنَّ مَنْ ظَننته يوماً , أنَّه الأقربُ إليك من بين كل بَنيكْ , ما ذَرَفَ عليكَ دمعةً واحدةً بعد , ولا دَخَلَ في معركة مع الكلمات , كي يقطفَ من اللغة أبهاها , وبها يرثيكْ , ولا فَـكَّـرَ حتى بزيارةِ قبرٍ , تقول عنه حقائق الخلود , أنَّـه يـأويـكْ.
أدري ذلك يا أبي .. أدري ذلكْ .
ولكنني يا حبيبي مِنكَ تعلّمت , يوم سقطتْ بغداد , وسقط معها أخر أملٍ للعروبة , أنَّ الحزن الكبير لا دموع له , وأنَّ الرثاء ليس واجباً عاطفياً , على ميزانه يُقاسُ بِـرُّ الـبـررة . ذلك أنّ الجينات التي ورثتها عنك , هي أغلى وأبهى وأنقى , مِنْ أنْ أستبيحَ شاعريتها بمزاحمة الأخرين في الكتابة عنك .
وأنا .. أنا الذي ما أحببتُ يوماً , انفاقَ كلماتي في زحمة المراثي , وسباق التباكي , على مَنْ أجدني أكثر من غيري , أولى بتلقي العزاء في رحيلهم .. صَــمَّــتُ يـوم مِــتْ.
شيءٌ فيَّ يا أبي ماتَ بموتك , وليس ثمّة شيءٌ في الوجود يمكن له أنْ يعوّضني عن رحيلك.
كبيراً عشتَ يا أبي .. وكبيراً رحلت . وهذا لعمري , هو الذي يُعزّيني بفشلي في استعادتك بالكلمات . ذلك أنَّ الكبار , وأنتَ الأعلمُ حتماً , لا يُواسينا عَنْ غيابهم أحدْ , ومهما حاولنا كتابتهم , يبدو ظِلَّ هامتهم على أوراقنا أكبرُ مِنْ مساحة حزننا , فنهاب الإقتراب منهم . ذلك أنَّ الموت , يزيد من سطوتهم , وصدمة الفقدان إذْ تباغتنا , تشلُّ لحينٍ حوّاسنا .. فننسحب , تاركين البكاء للأخرين.
اليوم , وبعد مرور كل تلك السنوات على رحيلك , أريد منكَ أن تخبرني : أيُّ كلمة عساها تناسب حَدَثَ غيابك ؟!..
رحل !!
مات !!
توّفي !!
غيّبه الموت !!
ولكنْ أيُّ موتٍ هذا الذي يستطيعُ أنْ يأخذكَ دفعةً واحدة ؟!..
وكيف .. كيف يموت مَنْ كانتْ له قامة كقامتك , وهامة كهامتك ؟!..
كيف يموت .. مَنْ شارك الله في صنع ضميري , وفي الحفاظ على استقامة خَطّيَ القومي ؟!..
كيف يموت .. مَنْ كان قدوتي في الدفاع عن قيم مهددة , وقضايا مفلسة ؟!..
أنت الذي ما تلوّث قلمكَ يوماً بما تدّفق في جيوب غيرك , ولا تجرأ أحدٌ على شراء صمتك , ذلك أنَّ مبادئك التي عليها اليوم نحيا , ما كانت للبيعْ . لذا ; ما تركتَ لأبنائك بعد رحيلك , سوى إرث القيم , وما عَلّمتَ ذُريتكَ , إلا عدم الإنحناء , مهما كانت الفجائع مفجعة.
أتدري يا أبي , لعلَّ واحدة من أكثر ما أحببتها فيك وأجللتها , أنكَ ما جَـلَسْتَ يوماً على قارعة المواقف , فقد كنتَ دائماً أنتَ الموقف , ولذا ; رحلتَ واقفاً .. عفيفاً .. شريفاً .. نضيفاً .. مريضاً بالداء المزمن نفسه , الذي أودى برجالات ذلك الجيل : داء القومية .
لا زلت أذكر ذلك اليوم يا أبي , ذلك اليوم الذي أعطيتني فيه مخطوطة كتابك " حكايةُ عمرٍ ..مضى " .
لا زلتُ أذكر طلبكَ المُغلَّفُ يومها بنبرة الحزن تِلكْ .. تِلكَ التي لنْ أنساها يوماً ما حييتْ:
" إنْ قُدّرَ عليَّ الرحيل قبل أنْ أُنهي حكايتي , فأكملْ فصلها الأخيرَ يا بُنيّْ . وعند انتهائك منه , أَودعِ الحكايةَ كلها على رفّ الأشياء .. أدري بأنَّ الغبارَ هناك , هو من سيُكفّنها , ولكني أدري أيضاً , بأنه يحدث للغبار أحياناً , أنْ يكون أكثر أمانة مِنْ كل بني البشر , في حفظ الحقائق "
هكذا قال لي أبي في ذلك اليوم الذي كانَ يُـعِـدُّ فيه نفسه للسفر الأخير.
اليوم ; أُمسكُ كتابكَ يا أبي , لقدْ رَحَلْت .. فهلْ أُخبركَ عن حالِ الرجال بعدك ؟!..
لنْ أفعلْ .. اعذرني يا أبي , لنْ أفعلْ , وأظنّك تعرف لماذا.
لكن لي عندك سؤال يا أبي , سؤالٌ كبيرٌ جدا , يعنيني كثيراً أنْ تجيبني عليه :
لماذا أخفيتَ عني الفصل الأخير من روايتك ؟!..
لماذا حجبت عني ما آلتْ إليه أحلامك ؟!..
لماذا , عندما كان عليكَ أنْ تُخبرني : مِنْ أينَ تُؤكلُ الكتف , أوْلَيْتَ لي ظهركْ , وأنا الذي ما عرفتك يوماً إلا مقبلا , لماذا هناك , كنتَ شيخ المُدْبِرين ؟!..
هل كنت تريد مني أنْ أقرأ كتاب الحياة , دون أنْ أطالعَ حرفاً واحداً منه في حكاية عمرك ؟!..
ولماذا , لماذا يا أبي , وأنتَ الذي ما كنتَ يوماً صارماً معي , لماذا أراكَ اليوم أكثر قسوة ؟!..
لمذا أنتَ زاهداً بزيارتي في عالم الأحلام , شحيحاً في مجالستي , راغباً عن ممازحتي , ممتنعاً عن رسم قُـبْـلَـةٍ على خدي كما كنت تفعل دائما ؟! ..
لماذا , حينما قررّتَ زيارتي ليلة الأمس , أتـيـتـنـي بـزيّ المُحَاسِبْ ؟!.. أَبَـلـغـكَ عـنـي ما يسوؤك يا أبـي , أم لأنك مُـذْ غـيّـبـكَ الموت , ما عُـدتَ أبي , وإنما رقيبي ؟!..
يا الله .. يا الله يا أبي , ما أصعب البقاء عند حسن ظن الموتى .
يا الله .. ما أصعب أنْ تُسندَ ظَهركَ إلى قبرِ مَنْ تُحبْ , كلّما جلستَ لتكتب !