خرجت من عباءة أبي لتظللني عباءته ، دخلت كهفه لم أرَ إلا ماكان يريني إياه..
تعلمت ألا يملأ صدري سوى ما يسمح به من هواء ، دربت نفسي على أن يكفيني ..!!
علمتني أمي كيف أصبح أماً ، دربتني بمدرستها الخاصة كيف أكون زوجة لا تعرف من قواميسها سوى كلمة نعم ..
يرحل الجميع ، يتركوني أمانة عنده ..
جهلت الكثير ، شعوره بأنه سيدي ودليلي بالدنيا كان يسعده ، إن خرجت معه ، كان يقودني كمن يتعلم السير ، يكاد يسقط من أول جلمود يلاقيه بدربه ، كان فيضانه ينحت شواطئي فأتعلم منه مالم أكن عرفته في بيتنا ..
صرت أماً تراعي بيتها وشؤونه ، لم يبخل علينا بما ينهمر من سماء وظيفته المتواضعة ، لم أعترض بل كنت أحمد ربي على نعمته علينا ، علمتُ أرضي ألا يتسع فمها إلا بقدر ما يتساقط من مياهه خشية إرهاقه ..
يوماً ....
لم يعد من العمل ، انتظرت كثيراً ، لم يغمض لي قلب..!
بدأ ليل الدنيا يزحف مستعدا للرحيل ، لكن ليل غيابه لم يبرح سماوات انتظاري ..
خرجت أتعثر ، حتى وصلت لمقر عمله ، لينظر لي زملاؤه ويلقوا علىّ خبراً أظلم حياتي فجأة كأنه كسوف كلي للقهر ..
هرعت لقسم الشرطة لأجده مُصفد اليدين ، مكبلة حياتي أمامه ، يبكي ، يعتذر لي بحروف من الدمع تتساقط فوق أسطر وجهه الحزين ، تتعثر الكلمات داخل فمه ..
- فعلت ما فعلت ، لأوفر لكم ما تحتاجون ..
- من قال لكَ إنك لا تكفينا ..؟ كل ما نحتاجهُ أنت ..!!
- ماذا ستفعلين ..؟
- لم أعتد هذا السؤال منك ، قل لي أنتَ ماذا أفعل ..؟
- فليعينك الله ، سامحيني ، فقد فُصلت من عملي ..
خرجتُ من عنده ، كمن كان يعيش في الظلام ، خرج للشمس فجأة فآلمته عيناه ..
كيف سأواجه الدنيا التي لم اعتد عليها ..؟ أطفالي كيف سأطفيء جوعهم ..؟
كيف وكيف ..؟؟؟
حكم بالسجن علىّ بسجون الدنيا ثلاث سنوات..!!
خرجت أبحث عن عمل ...
كانت الأبواب تصفع وجهي بلا خجل ، وقفت بطوابير الاحتياج ، تلقيت مساعدات من زملاء زوجي ، لطمتني الدنيا بقسوتها ، ركلتني بقدمها التي لم أعتد صوت خطواتها ..
بت الليالي الطوال ، أرتعد ، أرتجف من الخوف ، شعرت فجأة أننا بلا سقف يظللنا ، لنتحمل زخات الخوف من المجهول ..
جلست وحدي ، أنظر بمرآتي ، مررتُ إصبعي على تلك الخطوط التي تدور حول عيني كدوامة أغرقت شبابي !!
ملامح جسدي التي بدأ ت تزحف عليها فلول الترهل المرعبة ، تلك البرودة التي كستْ نوافذي ، زهور الثلج المتفتحة بجنان روحي ..!!
ليلاً ...
طرقات على الباب توقظه من غفلته ، ترعبني ، تركتُ مرآتي وعليها ملامح شوقي لزوجي ..
ذهبت نحو الباب لأجد ...............