حدث ذات موْتحنان الاغا
طُرِد من الوطن القلب ، الذي تُمارَسُ عليه يوميا ، كلَ أشكال التقانات المتعلقة بأنواع الحرف والفنون ، يُسْلخُ ويذبح وينتف ويعدم ، وأحيانا يطحن ُويعجَنُ ويشوى على المعابر ..
تخَرّج من هذا الوطن بشهادة واحدة ، وثيقة تثبت أنه من صلبه.. (كل شهادة تنفع صاحبها في هذا الزمن الأغبر ، إلا هذه .. فهي تجعلك مطرودا منبوذا أنّى وضعت قدمك ، مصلوبا على كل المداخل والمخارج ) وكان يقهقه ضاحكا وهو يردد هذه
العبارة ، ويردفها بمقطع فيروزيّ (وسقط العدل على المداخل، سقط العدلُ .. سقط العدلُ .. ).
كافح وواظب ونظم وتنظم وخطب وقاتل ، وشكّل لنفسه إطارا من حلمٍ بعودة ،عرف
أنها لن تتم إلا بالنضال وبالنصال .
ساقته طبيعة أقداره للترحال فشد عصاه ، فجَوّا ، اخترق سمت القطبين ، وبَرّا ،
قطع الربع الخالي ، وبحرا ، مَخَر مجتازا مثلث برمودا !
عاش الحلم لحظة بلحظة ، بعيدا عن الوطن وجواره ..
ومـــات .
مات منفيا داخل إطاره ميتة هادئة رصينة ، لم يدر بخلده يوما أنها له ، بل لم تقترب من
حلمه . تداعى من له من أقارب مزروعين في الجوار غير بعيد عن تراب الوطن المشار
إليه ، وتنادى لهم بعض أصدقائهم من هنا وهناك .. انتقلوا إليه حيث كان لاستلامه
مبرّدا ، كي يكرموه بدفن في جوار القلب ، فهو المكان الأحق باحتضانه في ظل
الاغتراب ..وتطلب الأمر الحصول على كثير من الأوراق المختومة ، إلا أن أصحاب الشأن لم يكتفوا بها ، وطلبوا المزيد ، للسماح لهم وله بركوب الطائرة ، فبرّدوه أكثر
وفتحوا جيوبهم أكثر ، إلى أن نجحت المساعي بعد وضع المزيد من الأختام والطوابع.
وصل الجثمان فزغرد من زغرد - حسب تقاليد أناس يزغردون ساعة الموت – وبكى من بكى ، وتعثر من تعثر بإجراءات الجمارك والتفتيش ! وأخيرا ، تنفس الجميع
الصعداء.. سيشيعونه بعد قليل في جنازة بسيطة ولائقة من مسجد المقبرة إلى القبر
حيث المقام الأخير . إلا أن الفرحة لم تتم ، لقد صدرت الأوامر بنقله إلى المسشفى ،
وتبدد الأمل بجنازةٍ ذلك اليوم .
في المشفى :
- لا بد من الفحوصات الطبية
- فحوصات ؟! (وفحصت الجيوب )
فرد الصوت العارف الواثق :
- خلو من الأمراض السارية
- - (صمت بليغ )
- - الكبد الوبائي ، والإيدز ، والتيتانوس، وشلل الأطفال و – (المزيد من الصمت )
- أفرغت جيوب الأقارب تماما ، في خزينة المختبر . وساقوا الجثمان باتجاه البوابة وقد قارب على الذوبان
- - مهلا . جاء الصوت العارف الواثق .
- ليس بهذا الاتجاه .
- أين ؟؟
- إلى اليمين .
- لماذا ؟؟
- للحصول على طلب إذن بالتشريح .
تحركت جيوب الأصدقاء في هذه المرحلة من تفريغ الجيوب .
- هيا .. بسرعة . أمرهم الصوت نفسه
- إلى المدفن ، تفسخت الجثة .
7-11-2006