في زيارتي الأولى للبنان عام 1973، وقفت مندهشاً أمام الحضارة اللبنانية التي جمعت محاسن الشرق والغرب، وأدركت السر الذي من أجله كان يطلق على لبنان لقب «سويسرا الشرق». لكن زيارتي الثانية - التي لم تطل - في عام 1976، أعطتني صورة مغايرة للأولى، إذ رأيت آثار الدمار واضحة على البنايات وحقيقة خطر الحرب الأهلية التي بدأت تدب في شرايين الشعب اللبناني بكامل فئاته.
ولعل أهم ما يميز لبنان عن غيره من الدول العربية، أنه استطاع أن يُحَصِّل الجانب السياسي الحسن لحضارة الغرب في مجتمع لبناني عربي أصيل. ففي الوقت الذي شهد فيه جيرانُ لبنان تغييراً سياسياً من الأنظمة الملكية إلى أنظمة سلطوية أكثر سوءاً، استطاع لبنان أن يقدم نموذجاً رائعاً للديموقراطية في الشرق الأوسط.
ولعل الجانب الديموقراطي هذا، هو أكثر ما يجمع اللبنانيين أنفسهم على اختلاف مشاربهم. فعلى رغم أن الحرب الأهلية السيئة الذكر فرقت الأمة اللبنانية إلى طوائف متناحرة، إلا أن الديموقراطية اللبنانية في النهاية استطاعت أن تجمعهم مرةً أخرى.
اليوم حيث يقف لبنان على مفترق طرق بسبب خلاف هو في الأصل ديموقراطي، يحبس اللبنانيون – ومعهم إخوتهم العرب - أنفاسهم خوفاً من أن تكون الديموقراطية المتضمنة تعددية الطوائف الدينية والحزبية هي ذاتها سبباً للفرقة والحرب الأهلية.
فالتعددية الحزبية غالباً ما تكون سبباً لبقاء الديموقراطية لا لزوالها. والمتأمل بعالم الغرب السياسي قد يجد أن من أهم أسباب نجاح الديموقراطيات الغربية هو تعدديتها، سواءً من حيث المنهج السياسي أم الاقتصادي أم الديني. وبالمقارنة نفسها، لنا أن نقول إن التعددية الحزبية - وليس غيابها - هي سبب نجاح الديموقراطية الهندية التي تعد أكبر ديموقراطية في العالم اليوم.
لبنان كان ولا يزال المثال اليتيم للديموقراطيات العربية الحقيقة، وهو محل فخر للشعوب العربية بمختلف مستوياتهم الثقافية، ومثال للتعايش السلمي للتعددية الحزبية والطائفية. ولكن الأحداث الأخيرة في الشارع اللبناني ربما تتسبب في تغيير الوضع الراهن شيئاً ما. فالمعارضة - التي قررت الاحتكام إلى رأي الشارع اللبناني - ترى أن الحكومة اللبنانية الحالية جاءت برغبة أميركية ولا تزال تحظى بتأييد أميركي، وهي بهذا تثير شكوكاً حول وطنيتها، وبالتالي تطالب الحكومة الحالية بتقديم استقالتها لتفتح الباب أمام انتخابات مبكرة. وهذا بحد ذاته مطلب ديموقراطي شرعي، إلا أن الحكومة ترى أن المعارضة تستجيب لمطالب من قوى إقليمية كإيران وسورية وأنها تقدم مصالح هذه القوى على المصالح الوطنية اللبنانية.
وهكذا، تحولت المسألة الخلافية في الرأي إلى تشكيك في النيات من الطرفين. وواضح أن إسرائيل وإن كانت بعيدة من هذه الأزمة بشكل مباشر، إلا أنها المستفيد الأكبر من جرائها. ولعل إسرائيل اليوم تجني أول نجاحات الحرب التي شنتها على لبنان الصيف الماضي.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن الولايات المتحدة التي وقفت إلى جانب إسرائيل في حربها تلك على لبنان، لا تعتبر وسيطاً نزيهاً اليوم. وقد ثبت اليوم لكل ذي عينين أن الولايات المتحدة لا تريد مصلحة شعوب المنطقة، وإنما تريد مصلحة إسرائيل، وواضح أن إسرائيل تود أن ترى تمزقاً في جميع شرايين الأمة العربية والمسلمة، ليس لبنان آخرها. ولعله من نافلة القول إن الأمر الذي حذر منه العاهل الأردني قبل أيام من احتمال نشوب حروب أهلية في ثلاث مناطق في الشرق الأوسط هو غاية ما تتمناه الدولة العبرية.
ولكن، ربما كان الوضع في لبنان مختلفاً بعض الشيء عنه في الدول العربية الأخرى التي شملها حديث العاهل الأردني. فجميع فئات الشعب في لبنان ذاقت الطعم المر للحروب الأهلية التي أنهكت كاهل الوطن طوال عقد ونصف العقد، والشعب اللبناني الذي لا يزال يتطلع إلى الاستقرار في بلده غير مستعد اليوم للتضحية بكل مكتسباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي حققها الشعب اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية، من أجل كسب مصالح صغيرة هنا أو هناك لهذا الحزب أو ذاك.
ولبنان، كدولة استراتيجية مهمة في المنطقة، مستهدف من جهات عدة. بعضها قريب ملاصق (إسرائيل وسورية) وبعضها قريب من جهة العقيدة (فرنسا وإيران)، وبعضها بعيد جداً كالولايات المتحدة، ولكن العامل المشترك لهذه الدول جميعاً هو السيطرة على الوضع اللبناني الداخلي من أجل تحقيق مصالح خارجية لا تمت إلى المصالح الوطنية بصلة.
والمطلوب من القادة اللبنانيين اليوم هو أن يحكّموا صوت العقل والحكمة في خلافاتهم، وألا يجعلوا الخلافات الطائفية أو الشخصية أو السياسية سبباً للفتنة والاقتتال. فالتاريخ يخبرنا أن الاقتتال كثيراً ما يقع بسبب غضبة طائشة، أو عناد شخصي تروح ضحيته أمة كاملة. وإذا ما حدث مثل ذلك - لا سمح الله - في المسألة اللبنانية، فإن الخاسر الأكبر ليس حزباً بعينه أو طائفة معينة وإنما سيكون الخاسر الأمة اللبنانية بأسرها.
من هذا المنطلق، فإن المطلوب اليوم لكي ندرأ فتنة الحرب الأهلية هو أن يكون هناك تحرك على ثلاثة محاور:
المحور الأول: هو أن يتم حوار لبناني – لبناني مباشر بين الأحزاب المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنني أدعو إلى عقد لقاء مباشر بين رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وزعيم «حزب الله» السيد حسن نصرالله، بصفتهما الزعيمين الكبيرين للحكومة والمعارضة. وأن تطغى المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة في هذا اللقاء، لكي يكون المسؤولون اللبنانيون على مستوى الحدث، ولئلا يشار إليهم بإصبع الاتهام مستقبلاً في أنهم كانوا السبب في حرب لبنانية أهلية ثانية.
في هذا الجانب، حري بالمعارضة أن تترفع عن دور المدافع عن بعض القوى الإقليمية، سواءً في المحكمة الدولية أم غيرها، وحري بالحكومة أن تربأ بنفسها عن دور الممثل للمصالح الدولية. وجدير أن يكون الاتفاق بين الأطراف مبنياً على ثلاثة أسس: اتفاق الطائف، حكومة الوحدة، المحكمة الدولية، لكي يسود صوت العقل ومصلحة لبنان، بدلاً من المصالح الحزبية أو الطائفية أو الخارجية، ولنتمكن من حل هذه الأزمة بطرق سلمية قبل أن يستفحل الخلاف فيستعصي على الحل.
المحور الثاني: أن تتحرك الحكومات العربية لإنقاذ لبنان، وأن تتحرك هذه الدول من مصالح لبنانية وعربية بحتة، لا لأجل الاستجابة للضغوط الخارجية.
في هذا الخصوص، فإن مصر تعتبر أختاً كبرى للدول العربية ولها مواقف مشهودة في لم الشمل واجتماع الكلمة، وحري بالقادة المصريين أن يبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ الوضع المتأزم في لبنان.
كما إن للمملكة العربية السعودية دوراً خاصاً في احتواء هذه الأزمة نحسب أنها لن تتخلى عنه. وقد كان للسعودية دور مشرف في إنقاذ لبنان من ورطته الأولى حين استضافت الجهود السعودية الناجحة مؤتمر الطائف الذي لا يزال لبنان يعيش بركته إلى هذا اليوم.
المحور الثالث: تشجيع الجهود المبذولة دولياً لانشاء المحكمة الدولية، ومساعدة لبنان للخروج من أزمته الحالية عن طريق إعادة إعماره من غير تحيز لحزب دون آخر.
لقد كان التعدد الطائفي سبباً رئيساً لوجود الديموقراطية اللبنانية، كما كان سبباً في إنقاذها من حربها الطائفية. واليوم نتمنى أن تكون التعددية الحزبية في لبنان سبباً لبقاء الديموقراطية لا لزوالها.
وإذا كان في أمثال العرب ما يغني فالعرب تقول «السعيد من وعظ بغيره والشقي من لم يتعظ بنفسه». وإنني كمواطن عربي، أريد حينما أتوجه لزيارة لبنان مرةً أخرى أن أرى الانطباع الأول الذي ارتسم في مخيلتي عندما زرته للمرة الأولى، وليس الانطباع الآخر.
محمود المبارك
حقوقي دولي
نقلاً عن جريدة الحياة
04/12/06//