جسد باتساع البياض
امتدت يده تتحسس رأسه الذي تقاسمته مساحات من السواد وذؤابات من البياض دون انتظام ، حتى كأنها دروب التغرب تجعله في بلبلة بين الإقدام والتراجع.
هكذا كانت حاله كلما كان مقبلا على أمر لا يحس براحة تجاهه.لكن صوتا مخنوقا صادرا من معدته جعلته يضع راحته القوية فوقها ويمسدها بحركة دائرية .هو يعرف هذا الصوت ويخجل منه ، بل لم يكن يتخيل يوما أن هذا قد يحدث له.
عزم أمره وضم كفيه أمام شفتيه الجافتين ونفخ فيهما بعض الدفء ، فتسرب البخار من بين أصابعه لينضم إلى البياض المحيط به .أدار رأسه للحظة وتأمل الأفق الممتد بلا حدود ولا تقاطعات سوى خطوط عمودية مظللة منتظمة تمثل قامات الأشجار الصنوبرية المنتصبة عموديا فوق خط الأفق الأبيض ، وقد ارتدت هاماتها أثوابا من الثلج الأبيض حتى كأنها وصيفات لعروس ملكية لا يدري أحد متى تصل حفل عرسها .
هز رأسه فيما كانت عيناه ترتدان إلى الباب المقابل ، وتتوقفان بتوتر فوق اللافتة التي قرأها كثيرا من قبل إلا أن هذه المرة كان لقراءتها وقع خاص استدر غدد اللعاب فأفرزت في حلقه مرارة اهتز لها جسده.
دخل بسرعة قبل أن يغيّر رأيه . فتلقفت أذناه الصوت النسائي الذي كان مشغولا بمكالمة هاتفية وصل له منها بضع كلمات عن حاجة المكتب إلى مواد دعائية للتعريف بخدماته التي يوفرها للمهاجرين الجدد !
ارتعد جسده بفعل الدفء المفاجىء ، في اللحظة التي رفعت فيه المرأة وجهها الذي يحمل بقايا جمال وشحته ثلوج الاغتراب فاكتسب برودة يدركها الشعور قبل العين ، ودون لمس .ألقى التحية ، وسحب لنفسه مقعدا متجاهلا عيني المرأة االمصوبتين نحوه بنظرة ليست أدفأ من وجهها .
_ أهلا . قالت بابتسامة فشلت في إخفاء ضيقها .لم يكن صعبا على مثله إدراك هذا ، فأجاب بهزة من رأسه فيما قفزت من عينيه العميقتين نظرة ساخرة تحمل الكثير من الأنفة والكبرياء وجّهها إلى عينيها بحدة فسحبت ابتسامتها وأسقطت جفنيها ، وعدلت نبرة صوتها المفرغ من العاطفة .
_ تفضل . قهوة ساخنة.
مد يده وتناول الكوب صامتا وشربه في رشفات متلاحقة.
قبل شهور كانت حاله غير الحال ، كان الوطن دائما هاجسه ، وكان مصدر رعب للمنافقين والمرتزقة والمتاجرين بالوطنية ولصوص مقدرات الناس.
ها هو النبل للمرة الأولى يهزم أمام الانحطاط .
ضاقت به الأرض على وسعها ، وشرعت في وجهه النصال ، وأحس بأنه لن يحصل على مترين من تراب الوطن على وسعه، لاحتضان جسده لو حضره الموت ، أو لو فكر هو باستحضاره .فرحل وارتحل وتابع السفر ، حتى ساقته باخرة غاشمة إلى هذه الأصقاع دون هوية . لا يعرفه أحد إلا هذا الوجه البارد والصوت البليد والنظرة المتجمدة أمامه.ها هو عاجز أمامها رغم ما يحاول إظهاره من سطوة تشفعها له معرفتها بمن كان .
يبدو أنه سيكون الارتحال الأخير ، وأن الثلج سيكون محطته الأخيرة . حدّث نفسه بضيق دونما استسلام .لا أوراق ولا طوابع ولا أختام ترجى الآن . فقط ما يحتاجه الآن هو بضع لقيمات يسكتن هذا الألم الذي يعتصر معدته . هو الألم ، أقنع نفسه ، وليس شيئا آخر ، فلطالما منح غيره ما هو له كي يحقق راحة نفسه التي فقدها الآن .
نظر في عيني المرأة مباشرة ، ففهمت للمرة الأولى دون تجاهل : آسفة لا يوجد لدينا . ثم وهي تسحب بحركة متسللة طبقا من الشطائر وتخفيه داخل درج مكتبها : المؤونة نفدت .
كان الصوت البليد في الوجه الذي يحمل بقايا جمال بارد ينطلق من إحدى الشاشات قائلا : افتقدناه في اليوم التالي ، ثم جاء من أخبرنا أنه وجد ممددا في الحديقة الوطنية تحت مقعد الحديقة الطويل .
أغلقتُ الجهاز وأنا أقبض على دمعة ساخنة : وُجد متيبسا ممددا على الأرض التي لا يبين ترابها ،وقد أبى أن يتوسد المقعد الخشبي ، لعله اعتقد أنه لو نام على الأرض فستمتزج ذراته بترابها المختبىء البكر ، وكأنما قرر أن يهب روحه لشجرة ، من تلك الأشجار الواقفة الصامدة في طرف الكرة البعيد .
_______________ _____
حنان الأغا
21-7-2007