المسلمون مُستاءون من أوضاعهم –لاسيما العرب منهم . وغير المسلمين يتساءلون .! كيف لمن يدعو غيره إلى درب النجاة والفلاح .. أن ينسى نفسه أو أن يتجاهل واقعه أو يعجز عن تعمير بيته وإصلاح ذاته وذات بينه ..!
وقليلون هم - بين المسلمين - أولئك الذين يولون اهتماماً ويرون ضرورة للحقيقة المجردة المُتحررة من التبعية الفكرية التاريخية ؛ ويُعنون بالفكر الراغب في التجديد وإعادة صياغة الثقافة المحلية - إذا لزم الأمـر ؛ ويجرؤون على الصدح برؤاهم الخاصة - بعيداً عن النبرة العمومية واللغة السائدة للخطاب التي تـُكبّل العقل وترسم مسارات محددة – شبه مقدسة – أمام الفكر ..!
فجُلُّ ما نقرأه ونشاهد آثاره في ساحات الفكر الإسلامي العربي لا يخرج عن المُعتاد والمُتداول منذ قرون ؛ والذي لم يعـد يُحرك ساكناً – سوى في عالم العواطف الجياشة الخيالية المؤقتة التي ما تلبث أن تتغير وفق آخـر ما تقع عليه الأبصار أو يرد إلى الأسماع .!
فلم نستأنس بعد بالفكر الذي يُخاطب عقل الفرد المسلم ، ويجوب حناياه ، ويقطن زواياه ليُحرجه ويُخرجه عن صمته - فيسأله عن كيانه وعن مدى استيعابه لدوره في الحياة ، ومدى استعداده لتأديته ، وما هي معوقاته .. بدل أن يُحاسبه على تقصير أو فشل لا يعلم ذاك العقل ما علاقته به .! ولا ينتظر هذا السائل من العقل جواباً عنه ..!
ولا ريب أننا نـُدرك حالة انعدام الوزن - وعدم الحضور- التي تـُميـّز الفرد في عالمنا الإسلامي – لاسيما العربي ..
حيث تتقاذفه التيارات والأوضاع السياسية الآمرة الناهية عملياً ، والفتاوى الدينية المُحلِّلَة والمُحرِّمة نظرياً ؛ والظروف البائسة اقتصادياً ؛ والروابط القبلية والطائفية والأعراف الاجتماعية ذات الطابع الترابطي الجماعي المُلزم ، والتي لا مناص للفرد من الانضواء تحت لوائها من أجل ضمان حصوله على الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة ...
كل ذلك يجري في غياب المعادلة المنطقية العقلانية التي تحكم ضرورات الفرد ومحظوراته ومسئولياته في إطار واقعه العملي ..!
حيث لا يملك الفرد إلا أن يحصل على الأمن والمسكن والمركوب والمعاش والقرض .. الخ ، وأن يؤدي الواجب الوطني - وفق مقتضيات الواقع المفروض ، والذي يتطلب- غالباً- التعامل بالرشوة والتملق والغش والخداع والرياء والمحسوبية - على مرأى ومسمع من الفتاوى والمفتين ..!
ولا يشعر الفرد بالأمان والوجود الاجتماعي إلا إذا سار وفق أعراف القبيلة وفتاوى الطائفة ، والتي تستوجب عادة العنصرية والتعصب ومخالفة المنطق - بصرف النظر عن القناعات والمبادئ ..!
ولذلك يحتار الفرد المسلم في أمر الفتاوى الدينية ، حيث أنها – نظرياً – مُلـزمة له كفرد ، في حين أنها – عملياً - جماعية أو مؤسساتية التنفيذ .. والمفتون يُدركون ذلك جيداً ..!
ولم نسمع من علمائنا رأياً صريحاً واضح المعالم يُحدد مسئولية الفرد المسلم الذي يفتقد إلى أبسط المقومات العملية للحرية الشخصية والكيان الفردي ؛ في حين أن فتاواهم تخاطب الفرد المسلم وكأنه مواطنٌ في بلاد مثالية خيالية – إسلامية الدستور وغربية الواقع - حيث الحرية الفردية وسيادة القانون وضمان الحقوق ، ولا حُـجّـة للفرد في التقصير في لعب دوره وأداء رسالته ..!
إن الطابع العمومي والشمولي للفتاوى الدينية ، وعدم التفصيل والتدقيق في حيثياتها عن مدى مسئولية الفرد ، وعدم أخذها للواقع الرسمي والشعبي - الإسلامي - والعربي على وجه الخصوص - بعين الاعتبار .. إن ذلك يُربك العقل المسلم ، ويؤدي إلى ظهور أفكار متناقضة تعتمد - أحياناً - على تأويلات متعددة لذات الآية أو ذات الحديث ..!
وليس من باب المبالغة أو التهويل إذا قلنا أن إلزام الإنسان بما يفوق طاقته ويخرج عن نطاق سيطرته ولا يقوى على استيعابه ولا يجد عنه بُـدّاً .. أن ذلك بيئة مناسبة لظهور أفكار تكرّس الواقع المتردي من ناحية ، وتؤدي إلى تطور الفكر باتجاهات عشوائية متخبطة من ناحية أخرى ..!
وأعتقد أن نتيجة ذلك هو ما نراه اليوم من صورٍ ثلاث - سائدة - للفكر في المجتمع العربي الإسلامي .. هي :
1- فكر النفاق العملي غير المعلن – والذي يتعامل أتباعه مع الحياة على أساس أنه لا وجود للحقيقة والمصداقية ، وبالتالي فهم يرون أنه من العبث إضاعة الوقت في البحث عنها ..!
2- فكر التطرف والعنف وظهور الجماعات المنغلقة المعادية للجميع – والتي يرى أتباعها أن من يدعو إلى فكر ما - فلا شك أن له منفعة من ورائه - فردية أو جماعية . ويعتقدون بأن الفكر يرسم الغاية ، وأن الواقع يُحدد الوسيلة ؛ وأن الفكر أسمى من حياة الإنسان ..!
3- فكر اللامبالاة والهامشية والسطحية في التعاطي مع كل الأمور .. ونظراً لسهولة متطلبات هذا الفكر ، ومواءمته لبيئة الجهل ، وقدرته على الحياة في بيئة الفقر .. فإنه يحظى في عالمنا العربي الإسلامي بنصيب الأسد من الأنصار ..!
وبين الفتاوى الملزمة بالواجب الديني ، والمسئولية المبهمة ، وضرورات الحياة ، والإرادة التي لا تكون إلا جماعية أو مؤسساتية ، وغياب البدائل وانعدام الرؤية أمام الفرد .. بين هذه وتلك .. غاب دور الإنسان المسلم الفرد - العربي - عن الساحة الفكرية وعن حمل المسئولية ..! وأضحى الكل يسمع النقد وينتظر التغيير ولا يرى نفسه معنياً بالأمـر ..!