لا أذكر منذ بلغت الإدراك في بداية نشأتي أنني تمكنت من زجر تأثري أو رد دموعي في كل مرة أرى فيها أثر وفاء أين تولى وأنى تجلى. لقد اعتادت الدموع هذه العصيان والإصرار على فضح مشاعري التي تضطرم انفعالا وتفاعلا مع أي مظهر من مظاهر الوفاء حتى لو كان بين الأعداء.
ولعل الأمر رغم ما يعتبره بعض القوم منقصة وأراه منقبة وعلى رغم مخالفته لطبيعتي المحافظة الرزينة الحازمة قد يبدو أمرا غريبا ولكنه لا يصل بحال إلى أن يكون عجيبا. أما ما أراه مع من رآه عجيبا فهو ما يحدث معي حين أتأثر جدا حد البكاء بما يكون من وفاء الحيوان للإنسان وأعجب منه من وفاء الحيوان للحيوان. ولا أزال أتذكر جيدا كيف كان وفاء ذلك الكلب الذي رأيته يوما في محطة انتظار الحافلة يضع رأسه على الأرض بحزن وهو يعلق عينيه بعيني صاحبه بحزن عميق وخلت الدمعة تكاد تنهمر منهما وقد طفحتا بما رأيته سؤال حائر مشفق أن ما بك يا صاحبي؟ ، وحين التفت إلى صاحبه وجدته حزينا منكسرا ينظر في الأفق بعيون ساهمة ، وكلما التقت عيونهما سارع الكلب ليخفي ما في عينيه من حزن وقلق فيرفع رأسه ويتمثل مظاهر السعادة يلعق حذاءه ويحاول أن يخرجه من حزنه بحركات كثيرة كانتا كافيتين لإغراء دمعتين صامتتين في عين تراقب.
ولعلني لا أذكر أني بكيت بعد بكائي وفاة أمي رحمها الله كبكائي في حالتين بالذات. أما الحالة الأولى فكانت في بدايات الشباب إثر مشاهدة فيلم هندي يتحدث عن صديقين خارجين عن القانون ولكن يجمعهما عهد الوفاء لصداقة لا مثيل لها حتى إذا تقاعد الشرطي الذي كان اعتقلهما وأودعهما السجن وخرجا من مدة العقوبة استقبلهما عند الباب يطلب منهما أن يقوما بمساعدته في التصدي لعصابة الأشرار الذين يهاجمون قريته ويسلبونها خيراتها. المهم في القصة هو أن الصديقين أوفيا بعهدهما للشرطي وقاما بمحاربة عصابة الأشرار التي تهاجم القرية وتعرضا فيها للكثير من المخاطر التي كانا اتفقا أن يلقيا بعملة معدنية بحوزة أحدهما فإذا جاءت الكتابة كان من بحوزته العملة المعدنية هو من يقدم أولا وإن جاءت الصورة كان الآخر. حتى إذا وقع هذا الآخر في حب إحدى فتيات القرية وخطبها وقررا الزواج بات صاحبه كلما اقترب منهما خطر يرجوه أن يقوم هو بالتقدم للخطر كي لا يحدث لصاحبه مكره يحرمه من السعادة بالحياة مع من أحب ، فكان يرفض ذلك دوما ويصر على اعتماد اتفاقهما القديم على نتيجة قرعة العملة المعدنية. وحدث أن اختطفت العصابة تلك الفتاة في محاولة للقضاء على هذين الشابين. علم خطيبها بذلك أولا فهرع إلى حيث تقيم العصابة في الجبل فوقع في مصيدة نصبت له. وحين علم صديقه بغياب صاحبه جن جنونه وأسرع إلى هناك من طريق أخرى يعرفها فوصل إلى رأس جبل مقابل ورآهم يهمون بقتل صاحبه وفتاته فاستطاع أن يشغل العصابة حتى تمكن صاحبه ومن الإفلات وهرب الثلاثة بين الجبال وإطلاق النيران والعصابة بكل رجالها تلاحقهم حتى أحاطوا بهم وقد نفذت ذخيرتهم وبات الخيار بين أن يقتلوا جميعا أو أن يضحي أحدهم بنفسه من أجل الجميع. أصر كل واحد منهما أن يكون هو من يبقى وأن يقوم صاحبه بالمرور فوق ذلك الجسر المعلق بين الجبلين هروبا للنجاة حتى قررا بعد جدل طويل أن يحتكما إلى قرعة العملة المعدنية كالعادة ففعلا وكانت الكتابة فخرج صاحبه بخطيبته متثاقلا متألما حتى إذا مرا من فوق الجسر ووصلا لدرب السلامة وكانت انتهت ذخيرة صاحبه المحاصر الذي رأى العصابة تحاول المرور من فوق الجسر نحوه فقام بآخر مناورة بقنبلة بقيت معه نسف بها الجسر بمن عليه وقضى على العصابة وسقط ميتا. لم يطق صاحبه الأمر فعتب على نفسه أن ترك صديقه وحديا وندم جدا وقفل راجعا ليجد جثة صاحبه وقد قبض بقوة على شيء في يده. ارتمى عليه يبكيه بحزن ثم فتح يده تلك ليجد فيها تلك العملة التي ما إن تفحصها بدقة حتى سقط فوقه ببكاء لا يوصف. لقد كانت تلك العملة بوجه واحد على كلا الجهتين هو الكتابة.
ولعل أعجب ما أبكاني ما رأيته من فيلم توثيقي عن عائلة من الفهود أم وثلاثة صغار. تابعوا الأم كيف تقوم بتربية الصغار والصيد من أجلهما حتى كبروا وبلغوا وكان الصغار أنثى وذكرين. أما الأم والصغيرة الأنثى فأطاعتا قانون الغاب الذي يجعل كل منهما تتبع ذكورا أخرى وتبدأ سلسلة حياة جديدة. وأما الأخوان الذكران فقد تلازما لا يسيران طريقا إلا معا ولا يصيدان صيدا إلا معا ولا يكادان يتفارقان أبدا. وفي ذات مرة وبينا هما في رحلة صيد إذ دخلا أجمة ليوث دون أن يدركا هذا فما كان إلا أن تربصت بهما لبؤة فهاجمت أحدهما وفر الآخر. قاومها الفهد الشاب حتى فر منها ببعض جراح أثرت عليه بما جعله صيدا أسهل للبؤة أخرى هاجمته فأدمته وزادت من جراحه ففر منها حتى ابتعد عن الآجام يسير بعرجته بتثاقل كبير والدماء تسيل منه.
أما أخوه فلما إذ أمن هجوم اللبؤة وأدرك أن أخاه ليس معه حتى أصابه هلع كبير وحزن شديد ودار يبحث عن أخيه في كل اتجاه يناديه بصوت رقيق وعادة الفهد أن لا يصدر منه صوت إلا عند الكرب ، ويتشمم كل شجرة وكل صخرة وكل درب تعودا أن يسيرا فيه. ثلاثة أيام أو يزيد والفهد لا يعرف نوما ولا يقصد صيدا ولا يستكين لراحة في حر وقر يبحث عن أخيه يتشمم أثره حينا وينادي عليه بصوته الوجيد حينا. وبتقريب التصوير من وجهه كانت عيناه تحملان ما يعجز الحرف عن وصفه من حزن ووجد وفقد وقد سكنت دمعتان في عينيه لا هما سالتا ولا هما زالتا.
وفجأة رأى على البعد حركة بين الأعشاب فأسرع إليها لعله يجد هناك أخاه ، فما إن وصل إلى حيث الحركة التي أحدثت الصوت حتى رأى غير ما توقع ؛ وجد فهدا آخر جريحا لم يعرف فيه أخاه فهجم عليه يريد أن يقضي عليه كما هو ناموس الغاب ، فلما أن كر عليه حتى سمع من الفهد الآخر صوتا يعرفه جعله يتجمد مكانه. كان الفهد الآخر قد تمرغ على الأرض في تذلل وتوسل يصدر صوتا رقيقا. كأن الفهد احتار فهذا صوت أخي ولكنها ليست رائحة أخي. هذا ليس أخي ، عاد ليهجم عليه فسمع ذات الصوت فجمد من جديد. الفهد يعرف أخاه بالرائحة ثم بالصوت ، ولم يجد في هذا الفهد رائحة أخيه ولكنه كان أخاه. ما حدث هو أن هجوم اللبؤات قد جعل رائحتها تعلق فيه وتخفي رائحته الأصلية مع الدماء التي سالت غزيرة على جسده. أما الفهد الجريح فقد عرف أخاه وجلس أمامه بتوسل يحاول أن يستدر عطفه بأن يخبره من خلال الصوت بأنه أخاه الذي يبحث عنه فلا يقتله لكن الفهد وسط حيرته هاجمه للمرة الثالثة فسمع ذات الصوت فجمد مجددا ثم إنه عاد فعاد وعاد فعاد حتى كاد الجنون يصيبه في حيرة بين رائحة لا تشبه رائحة أخيه وصوت هو بالتأكيد صوت أخيه. وقف أمامه يتأمله بحزن وصمت وحيرة لدقائق بلا حراك ثم التفت عنه ومشى بتثاقل خطوة أو اثنتين وأخوه لا ينفك يصدر صوته الرقيق مستجديا فوقف والتفت إليه برأسه دون جسده يتأمله في حزن وحيرة لدقائق ثم مشى خطوتين فكان ذات الأمر ثم مشى بضع خطوات قبل أن يلتفت إليه بكل جسده ويتأمله من جديد بحزن أوجع قلبي وقد طفرت من عيونه الدموع تسيل - أقسم بربي رأيتها تسيل- ثم إنه التفت عنه يعدو بكل طاقته إلى حيث أخذته قدماه ، وأما أخاه الجريح فقد علم أن الأمل قد مضى بمضي أخاه فآوى إلى حضن شجرة وتمدد ليموت بعده بدقائق.
يومها بكيت عليهما بكاء ثاكل.
ولعلني لخصت هذه العادة في بيت من أبيات قصيدتي ناديت قومي أقول فيها:
مَتَى رَأَيْتُ وَفَاءَ المَرْءِ صَاحِبَهُ فَقَدْ رَأَيْتَ دُمُوعَ العَينِ تَنْسَجِمُ
لا أبكى الله لكم عيونا إلا فيما يسركم.
تحياتي