وديعة – حين ينامون
المقت مرض هذا العصر--- اضطراب وضبابية في الرؤيا وعدم اتزان في تصرفاتي, وكأن أعراض هذا المرض قد تسللت إلي في ذلك الأسبوع؛ فبدأت
أشك بقدرتي على تقييم الأشياء .
الرابعة بعد منتصف الليل يد خفية أيقظتني صحوت من نومي، جلست حائراً لا أدري ماذا أفعل ؟
ارتديت معطفأً خفيفاً ، وخرجت هائماً إلى شوارع مقفرة إلا من مرور قط خائف أو كلب جائع .
مشيت لأكثر من ساعة على غير وجهة... وأخيراً ساقتني قدماي إلى المقبرة التي تمكث على هضبة اعتلت ناصية البلدة .
السلام عليكم:
تحية محفوفة بالمهابة والخوف المكبوت ,اتجهت نحو قبر أبي ؛ جلست بجانبه أقرأ –الفاتحة- وأصغي بحثا عن الصفاء، كنت أتوق إلى من أكنُّ إليه علّي أجد الصدق والإخلاص فلم أجد بُداً من الأبوة.
كانت تباشير الفجرقد أدمغت وجه السماء بانشقاقها عن بعض من لحمتها الحمراء, ونسمات عليلة تلامس جبيني لتفضي هدوءًا وسكينة, صوبت النظر لآلف أمامي سلسلة من الجبال والوديان رابضة تضفي على المكان وحشة ورهبة .
رفةُ رمش واحدة ارتد نظري بعدها باتجاه البلدة التي أقبع على ناصيتها,
كانت تبدو رزينة هادئة .
البيوت تصطف بجانب بعضها ؛ وكأن القائمين عليها كانوا يهدفون من اجتماعهم هو التعاون والتكاتف على الحياة .
وديعة بمظهرها، جميلة، كل شيء ساكن, الرتابة والخضرة تكللها, وتزيدها أناقة.
لبرهة انتابني هذا الشعور، وما لبث يغادرني عندما بدأت أحدق في ذلك الشبح الذي بدأت ظلاله تتحرك باتجاهي، وكأنه هائم مثلي يبحث عن خلٍ يكن إليه ؟
لبرهة تجلى بسرواله القديم وتجاعيد وجهه الداكنة وقسماته البائسة,
كان هرماً أخذت منه السنون، فانحنى ظهره وبدا تعبه وهروبه.
السلام عليكم :
جلس قبالتي مسترخياً على الأرض التي آثرها مقعدا بدلا من حجارة القبور ,
قرأ -الفاتحة- بصوت خافت وما لبث أن أعقبها جهراً- سورة يس- وكأن صوته أضفى على المقبرة شيء من حزن مفقود وبينما يتلو وأنا أتباين آية وأخرى بشعور مختلف وأحاسيس عجيبة ....انتهى- صدق الله العظيم - .
اقترب مني مددت يدي أبحث عن بعض النقود في أحد جيوبي ظنا مني بأنه من أولئك المقرئين إلا أن يدي تجلدت عندما بدأ متحدثا, وهو ينظر باتجاه تلك الجبال قائلاً:
وهبته كل ما أملك ----أرضي ومالي حتى منزلي- الذي لم يعد لي مأوى سواه - سجلته باسمه توفيت أمه وهو صغير فكان وحيدي , بل كل دنياي .
كنت أرقب عوده وهو يقسو, في كل يوم يكبر وسعادتي تكبر معه .........أنهى تحصيله الجامعي .. تزوج من زميلته، وما لبث أن فاجأني بأنه سيرحل إلى المدينة ....حزنت كثيرا لكنني تقبلت شريطة ألا ينقطع عن زيارتي في كل أسبوع، إلا أن زيارته بدأت متقطعة في بادئ الأمر إلى أن أصبحت بالمناسبات.
وبعد غياب طويل!!!. ومنذ أسبوع تلقيته بأحضاني عندما طرق بابي في ذلك الصباح ظننته أنه الشوق إلى أبيه, كابرتُ دموعي التي أصرّت أن تتناثر لرؤيته.
وبعد حين من وصوله طرح مال أتوقعه يوماً يريد أن يسكنني في المدينة قريباً منه..... غص ذلك الشبح, وسكت حيناً, وكأن الكلمات علقت في حنجرته!! وأرخى اللجام لذكرياته التي قادته عنوة إلى الماضي ثم ما لبث أن أردف قائلا: يريد أن يضعني في دار المسنين؛ لهفة منه على شيخوختي ووحدتي ؛ ووفاء منه على رعايتي له, طبعا رفضت وقاطعت ولدي, وأول البارحة طرق بابي أحدهم !! ليبلغني بأن أفرغ حاجياتي من الدار التي أقطنها لأن ولدي قد باع الدار ...وسكت العجوز طويلا!!! وما لبث أن تركني ---------.
وراح يتجول بين القبور , وكأنه يبحث عن مسكن جديد ---------
وارتد الطرف بي عائدا يشق طريقه عبر تلك الجبال والوديان و تساؤلات أرهقتني ؟ هل وجدت تشخيصا لهذا المقت, وكيف لا؟ والمقت فقدان للسعادة , ولا سعادة بلا رضا ء ، ورضا الذات يكمن في رضاء الله (( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية )) –صد ق الله العظيم - ومن رضاء الله رضا الوالدين , ومعظمنا في خصام دائم مع ذاتنا وإنسانيتنا, نحيا ملكاً لأنانيتنا, ورغباتنا , وأنى لنا؟ بلوغاً تلك السعادة--- وذلك الرضا
وكأن السماء غضبت وهي تصغي لقصة هذا الطيب فبدأت تقشع غيومها السوداء علّ الفجر يشرق .
فسارعت أناجيها أرجوك لا توقظيهم ....... دعيهم
فكم أنت وديعة يا بلدي حين ينامون