أمسك بيدي وقال لي: بافاريا أكتبي توهتي وأنقليني إلى سطورٍ ليقرأني الكون ..
جزعتُ من جزعه الذي وصلني عبر ملامح المدينة تلك التي تَناطح مع جفوتها ..وبقي ممسوسا بمس الهلوسة والهذيان المميت وينتظر هلول اشراقات قطار جديد ..يوصله لمحطات أكثر أناقة من التي عرفها من قبل .
فكتبته كما وجدته غارقا في معين البؤس .... يبحث عن هدوء يكتنفه ...
فحدثني من عينيه هذه الكلمات :
الخلود إلى النوم يعد هو الكابوس لمتفرقٍ مثلي ,لم أجد بعد بعدا يملئوني ويعنبرني في خانة معنونة بعناويني الخاصة .
بقيت على كرسيّ محنطا ... مهشما أسند رأسي بيديّ على طاولة الموت ...حيث أظل منغمسا في أروقته, وبطني أصبح يتجشأ من وطئة الجوع فقد شبع من محاولاته في تنبيهي بموتي القريب ,و ليس في يدي المتآكلة شيء من خطة للخلاص .... والتسول أفدقني الكثير من لحم وجهي , لم أعد أطيق أن أستعير قناعا آخرا لأنغمس فيه .
واليوم القمر ليس رائعا بما يكفي أن أسير تحته معروشا بفراغي الذي قد سكنني منذ أمد ,أخاف من أن يسترق المارة النظر إليّ ليشاهدوا تنازعي وانجذابي كجلد ممغنط مع بعضه وينفر من بعضه أيضا ,وأقدامي لاتتذاكى في حملي إلى أمكنة أقل تشويشا لهدوئي لتتقلص حدة البؤس الذي يتلبسني ويجعل وجهي منزوعا من الدم وشاحبا مزرقا كوجوه المجرمين المغيبون في السجون .
يجب أن أكتبني ومن المنفى يجب أن أتغافلني ...لأترجم بعضا من موتي على سطور قصصي الموحشة, التي تقضي على بقيتي ..لايوجد لدي الكثير لأخسره مجرد جسد داخله كومة من الفراغ ... كان مملوءً بنسمات لطيفة معبقة بذاكرة قلبي الفرِح و الذي سكن في المدن الغارقة في جهنميتها العبقرية , لكنني ما عدت أحمل مثل ذلك القلب من جديد ...فلقد انسرب من بين أصابعي كسائل واندلق على الأرض وجف تماما تحت شمس بؤسي الحارة .
أبقى وحيدا بين الشوارع والأرصفة ,ملعونا من كل الجسور المؤدية إلى باب البيت حيث تكون الراحة ..
لاجدوى من أن أجد خريطة تقودني له من جديد .رقصت كا الأبله على الجرح القديم والجديد وقروح جسدي تتزايد , وعبثت بها فنزفت مزيدا من شروخي ....
وآلامي تصبح كالخنادق المليئة بصراخ الجنود ...خوفا من هطل الرصاص فوق رؤوسهم.
ما عدت أرى فعيناي قد أظلمت واجهاتها ....وأغلقت على أحشائي المخدشة بأظفار الوحشة ..... والمرهونة لزمان لم يحل بعد ..خانتني الحياة في روضتي المخملية فلم تعد تريني إياها وجعلتني كدكاكين المدينة بعد الواحدة صباحا مهجورة من المشترين .
وكل هذا لم أعثرني بعد...مُتبرٌ ما أنا فيه مأفونٌ.... مأفونٌ ...ومقذوفٌ بصورايخ بعيدة المدى إلى نهايات الكون .... وأظل مستيقظا وعيناي تشاهد تفجيري على مرأى الملأ كلهم ..
أبدو غير متزن..أظن أنني أحتاج إلى الكثير من الوقوف أمام المرآة لإعادة ترتيبي
وأعود كما كنت في الأيام الخوالي ..
لا أريد أن أظل ككوب مسكوب ما بداخله على مائدة عفنة بفضلات الطعام المتيبسة بعد مضي دهر عليها ,فمرارة الفقد والحزن ضارب جذره في عمقي, وفجائع تلاشيّ تتزايد ....كموج يضرب برعونة شاطئا وديعا في المحيط الهائج ,و نفسي يجب أن لا أتركها لنفسي فأنا سأُمرضها حتما ..وسأبدأ بالتساقط فأتناثر
ولا يبقى لي من جسد خاص لأعود به إلى نقاط تتشابك فيها خيوطي الملونة وتتناسج لأصبح لوحة تشكيلية خلابة تتقافز في بحيرتها طيور البجع البارع الجمال ..وكفوف الشفق تلون مدني فترخي عليها كلاسيكية حالمة,أصبحت مطاطيا و متميها في كل الأجواء, لم أعد أهتمني ,ونوافذ العودة أصبحت أكثر تجهما في وجهي ... ولم تعد تطيقني بما يكفي في أن تسمح لي أن أسير فيها .
أنا كطائر الفينيق لم أنجو.. من رماد الحرب , نفقت تحت الجثث واندلعت نيرانا تستعر لِأكل روحي .... فلا يبقى مني إلا هذا الملتوي على نفسه كما ترين على أرصفة الخوف من المستقبل أُأرخ نكباتي الخارجة عن كل قوانينكم وفقط أحملها وحدي ولا أنساها .
لا تصرعي نفسك بي أتركيني أبحث عن بعضي ....إلى اللقاء .
مضيت أنا كذلك في طريق لأكتب عني وعن تواريخي وأبحث عن عدساتي الملونة .