أول مثال هنا قوله سبحانه : ( فأكله الذئب ) في قصة يوسف عليه السلام.
قد يطرأ سؤال مؤادّاه : إننا بعقولنا البشرية, قد نقول في هذا المقام: فافترسه الذئب, وبخاصة وأن الذئب حيوان مفترس, من شأنه أن يهجم على فريسته, فيشبع بطنه, ويرد جوعته, بافتراس ما تيسر له منها من شحم أو لحم, أو عظم ودم, وسرعان ما ينصرف عنها تاركاً سقطها: دمـاءً تنزف, وعظما تهشمّ, وبقايا مختلطة من جلد وشعر, وما إلى ذلك.
ومعنى هذا أن ( الافتراس ) يعقبه عادة بقايا من الفريسة أو الضحية.
وفي ضوء هذا, لم يكن ممكنا لإخوة يوسف- وهم يكذبون على أبيهم- أن يقولوا له : إن الذئب قد ( افترس) أخاهم, وإلاّ لـسألهم الأب عما تبقّى من ابنه بعد حادثة الهجوم والافتراس.
وهنا فقد كان لهم أن يفتضح أمرهم,حيث لم يكونوا قادرين على إخفاء جريمتهم, ولذلك فقد اختاروا-أو بالأحرى- اختار القرآن الكريم لهم أن يجيئ تعبيرهم بفعل ( أكل ) في هذا السياق, وذلك بدلاً عن فعل ( افترس ) حيث كان ( الأكل ) يداري فعلتهم النكراء, وجريمتهم الشنعاء, إذ هو إتيان على المأكول كله, دون ترك آثار منه. ومعنى ذلك أن التعبير بالأكل, دون الافتراس قد جاء تغطية أمينة لموقفهم الفاضح, وفعلهم الجاهل. وهذا بالضبط هو ما قصدناه من تلاؤم اللفظ مع الدلالة, بل أيضا مع الموقف والسياق.
يقول الخطابيّ ( ت388هـ) :
(إن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحـسـب, وأصــل الفـَـرْس دقُّ العنق.
والقوم إنما ادّعو على الذئب أنه أكله, وأتى على جميع أجزائه وأعضائه, فلم يترك منه مفصلا ولا عظما, وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه, فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة, والفـَـرْس لا يعطي تمام هذا المعنى, فلم يصلح على هذا أن يعــبـَّـر عنه بالأكل.)