] قراءة في نصّ :
فتنة الماء – توليب محمّد
الفتنة لغويا: اختبار وامتحان "إنّما أموالكم وأولادكم فتنة لكم"
الماء مصدر الحياة . ويمثّل "لاتناهي الإمكانات والاحتمالات والـتّشكّلات مثلما يشكّل كلّ مخاطر الاستيعاب والامتصاص والغرق "
فالعنوان يوحي بالاختبار والصّمود في وجه الحياة .
أقــطعُ تخــوم الماء
عـلى تقاطيــع وجهك
وأفـتحُ ضلوعي
لغيـمة تعيد تشكّـلك
يبدأ النّص بالفعل أقطع ( فعل مضارع _ ومعظم الأفعال جاءت في المضارع ) ، الذي يدلّ على الاستمراريّة والمثابرة فيما يُقدَم عليه . الكاتبة هنا تجتاز حدود الماء الذي حجب ملامح وجه المخاطَب، وغيّبها، وتفتح ضلوعها (عمليّة شقّ صدر) لغيمة تعيد رسم الملامح التي حجبها الماء . الغيمة تتكوّن من تكثيف بخار الماء، وهي حجاب علوي كما الماء الذي حجب الملامح في الأسفل ، لكنّها هنا أساس الانبعاث والكشف، وليست حجابا. فالماء في الغيمة أخذ دلالة التّجدّد والانبعاث . وهذا التّجسيد الجديد سيكون مركزه بين الضّلوع: القلب – في القسم العلوي من الجسم؛ كي لا تُنسى الملامح، وتحاط بالحبّ. إذًا، الغياب والحضور من نفس المسبّب – الماء. وهذه ثنائيّة لدورالماء. وتظهر الثنائيّة في الأسفل والأعلى: الماء كان سلبيّ التّأثير حين غيّب صورة المخاطب في الأسفل، أمّا في الأعلى، كان مصدر التّجدّد(الغيمة).
أرصـــدُ...
الفـقْـد المنـذور
لعاشـق مجنـون
آخــى الليل
يبـحث عنـــك
في تفاصيــل الخريــطة
فانتخبته القصائد
الشّهيــد رقـم ( .... )
فـي وِحـشـة الرّمــل
أرصُد أيضا فعل مضارع ( أنا واستمراريّة ). والرّصد هو عمليّة ترقّب. والترّقب الملزم لفقد كأنّه نذر لعاشق جنّ بسبب عشقه( تنازل عن الأنويّة التي أظهرها الفعل أرصد ، وتنكير العاشق، وتعريف المعشوق - عاشق مجنون،عنك. وهذا يعطي أهميّة وذاتيّة أكثر من ذات المحبّ ) ، وتركَ النّور أي اليقين وآخى الليل: الهموم والسّهد والأفكار( القلق العاطفي )، وراح يبحث عنك، عن المعشوق في تفاصيل الخريطة. هنا إشارة للغربة ، فالسّائح أو الغريب عن المكان هو من يستعين بالخريطة ، ويبحث عن الأمكنة، وكأنّ المحبوب جزء من وطن يبحث عنه. نستنتج أنّه بعيد؛ لنعرف بعد ذلك أنّ القصائد(المشاعر) انتخبته(أرادته) شهيدا يحمل رقما مجهولا!
الشّهيد حيّ لا يموت "أحياء عند ربّهم يرزقون". أي أنّه حيّ يؤنس وحشة صحراء العاطفة . يبدو هنا التّقمّص لذات المحبوب المغتربة التي تبحث عنها ذات المحبّ في ليل أفكارها البهيم؛ فتجده حيّا يؤنس وحشة صحراء حياتها .
أتهــجّـى...
الحرف التّاسع والعشرين
يغتال..
صمــت الكـلام
خطيئة البلاغـة
تيـه الكناية
يمحــو نعشا..
ويكتب اللّغة من جبيـنك
تهجئة الحرف التّاسع والعشرين . نحن أمام إشكال: الحروف في اللغة ثمانية وعشرون، وأضاف البعض الهمزة ( همزة أو لام الف، بسبب الخلافات حول الهمزة والألف) لتصبح تسعة وعشرين. إذا لم نرض بزيادة الهمزة فلا وجود لهذا الحرف، وتختلقه الكاتبة؛ لتبيّن أهميّة ما تتحدّث عنه،أو إعطاء قيمة للأمر الذي لا تراه إلّا هي لأنّ الحرف التّاسع والعشرين فوق الأبجديّة!وكأنّا بها تريد خطاب المحبوب بكلمات من عالم غير موجود، يخصّها فقط ومن صنعها هي ! وهذا الخطاب الذي تخاطبه به يغتال( والاغتيال هو قتل وخداع)أي ينهي دون شرعيّة جمال الكلام وهو الصّمت، والبلاغة في الكلام التي تّرى خطيئة في نظر من لا يفقهها، والكناية التي لا تخلو مفرداتها من التّيه. ولا يُحمل المغتال في نعش . أي لا قيمة للمغتال؛لأنّ الحرف التّاسع والعشرين سيخلق لغة جديدة من جبين المحبوب، وحياة جديدة له. تعاود الثّنائيّة في الظهور: المحو والكتابة. الموت(الاغتيال) والحياة .
وإذا ما اعتبرنا أنّ الحروف تسعة وعشرون، فالأمر مختلف. الياء هي الحرف المقصود. عند تّهجئته يصدر صوت كالحشرجة ، أي أنّ هناك مشكلة، وتعبًا.فالكلام غير واضح، وهذا الصّوت يلغي صمت الكلام، وخطيئة البلاغة التي تجعل الكلام غير الكلام، ويغتال أيضا غيّ الكناية التي تموّه الألفاظ، ويمحو نعشا. أي يرفض الموت، وهنا الميت غير محدّد ومعروف؛ لأنّ كلمة (نعشا) جاءت نكرة، ويخلق هذا الحرف الكلمة (اللغة) وهي الحياة من جبين المخاطب. فالجبين في المعتقدات الدّينيّة هو الصّفحة التي يخطّ عليها مصير الإنسان. أي أنّها تجد الحياة مكتوبة على جبينه ! حيّ، موجود معها رغم ابتعاده الذي لا تسلّم به.هو قريب وبعيد في الوقت ذاته . ويصل بها الحال للشّعور بالضّيق . ولو كان قريبا منها، وحيّا مثلما أشارت ( شهيدا) لما وصل الأمر لحالة الحصار.
وتحاصرني
الأسيـجة..
الحدائـق..
الخطـوات..
الاحتمالات..
وأنا ها
أضيــق بي.. لأتّسع بـك
ولأنّــك..
أوّل الماء
ومنتهـى الماء
سأختصر الطّريــق إليـك
وأشتهي الموت
غــواية..
تسحبــني إلــى مائك المستحيــل
الحصار قيد وضيق. وغالبا ما يكون في الأزمات والشّدائد تظهر هنا معالم مكانيّة واسعة ، ورغم اتّساع المكان (بنية تحرّر) تشعر بضيقه(بنية قيد)، وكأنّه يحاصرها . أوّل الأمكنة: الأسيجة وهي قيود تقلل حركة الجسم، والحدائق . تحاصر بالجمال. أعطت هنا للجمال دلالة سلبيّة؛ لأنّها لا تشعر بقيمته . والخطوات وهي مراحل الحياة ، أو ربّما حركات الرّجلين التي تحاصرها وتمنعها من الحراك . والاحتمالات : التّوقعات والانشغال الفكري فيما يجري .. كلّ ذلك ضيق في ضيق ..سكون يضايقها ، ولا تتّسع رغم هذا الضّيق إلّا بوجود الحبيب قربها ! أي أنّه الحركة والحريّة والحياة... في مكانها الواسع الضّيق (ثنائيّة : ضيق المكان واتّساعه)
ولأنّه الحياة الأولى والأخيرة: أوّل الماء ومنتهى الماء (ثنائيّة)- تعطيه صفة الشّموليّة والسّيطرة على كلّيّتها - فإنّها ستختصر الطّريق إليه باشتهائها الموت (غواية) بسبب الضّلال والخيبة ، واستحالة الوصول إلى حياته (مائه المستحيل) . واختارت الفعل أشتهي؛ لأنّ فيه الحبّ والرّغبة، وهو لفظة غرائزيّة، ويتضمّن الإلحاح، وفي صيغة المضارع. أي تنهي بالإصرار والصّمود في وجه ما تريد.