الرسالة الثانية
أي بنيه ...
يقول ابن منظور في لسانه ، بان الذكورة ، هي مخالفة الأنوثة ، ولا يضيف على هذا أي معنى يقود إلى فهم غير ذلك ، ويقول بلسانه ، بان الرجولة ، أيضا تعني ذات المعنى ، مع اختلاف الأصل الاشتقاقي للفظين ، لكنه يضيف بان الرجولة ، لا تطلق على المولود الحديث ببعض آراء أهل اللغة ، بل يكتمل معناها إلا إذا ارتفع الذكر فوق سن الغلام ، وشب إلى سن الاحتلام .
ومع اعترافي المطلق ، بضآلة ما احمل من علم أو فهم في علوم اللغة ، بجانب أستاذ في المدرسة الاعدادية ، فإنني أدعي ، بان اللغة تتسع إلى ابعد من ذلك ، فهي تحمل مضامين ودلالات نفسية وذهنية نستطيع أن نستشعرها بعمق مذهل ، دون أن نستطيع أن نبينها بما نملك من مفردات وكلمات وجمل .
فحين يقول الطبيب النفسي لمريض ما ، انك مصاب بالكآبة ، فانه ببساطه يحاول أن يصف حالة نفسية مر بها المريض ، عبر مجموعة من السنوات ، وكم هائل من تقلبات واضطرامات وبراكين كانت تمور بنفس المريض وذهنه ، لتخرج بعلامات على الجسد ، نستدل من خلالها على تهدم المريض وتردمه ، لكننا لا نستطيع ، ولا بأي حال من الأحوال ، أن نعرف كم الألم والعذاب الذي رافق ملايين اللحظات التي شُوِيَ المريض فوق غضاها ، إلا إذا مررنا ، بنفس الألم والعذاب ، عندها فقط يمكن أن ندرك معنى الكآبة ومدلولها في اللغة والنفس في ذات الآن ، أما قبل ذلك فإننا نبني صورا فوق بعضها لنحاول أن نصل إلى حدود المعنى .
ولو أردنا أن نأخذ بالفرق بين اللفظين ، حتى بما قاله ابن منظور في لسانه ، فإننا نستطيع أن نمسك بفرق واضح بين اللفظين ، فالذكورة ، هي مخالفة الأنوثة ، وتطلق على المولود ابن لحظته ، ولكن الرجولة ، تبقى صفة منتظرة سن البلوغ والاحتلام ، لتصبح لفظا قابلا للالتصاق بالذكر الذي الذي تعدى مراحل اتفق الناس عبر العصور على إخلاء أصحابها من المسؤولية التي يتحملها الناضج البالغ ، وهو أيضا سن التكليف بالإسلام ، وما قبله ، يبقى خاضعا للفطرة التي يأخذ بها الخالق جل شأنه كل من مات وهو دون سن البلوغ والتكليف ، لتكون الجنة مأواه الحتمي حتى لو لم يعلن إسلامه .
ومن هنا نستطيع ، أن نبدأ بقرن المسئولية ، كصفة لازمة من لوازم الرجولة ، وان كانت هي الصفة التي تضم بين جنباتها وفي أعطافها ، مدلولات كثيرة ، متناثرة هنا وهناك ، لتنتظم كلها في عقد من صفات ، يبدو من بعيد حصنا كاملا مدججا بأخلاق ليست من حظ الذكر لوحده .
أي بنية ...
الذكورة صفة يشترك فيها الحيوان مع الإنسان ،فيقال ذكر البقر ، أو ذكر الخنزير ، أو ذكر الكلب ، ويتفق المعنى تمام الاتفاق مع المعنى الذكوري الملاصق للإنسان ، لكننا لا نستطيع ولو مجازا أن نقول الخنزير أو الكلب الرجل ، وهذا ما أكده ابن منظور بلسانه ، حين قرر بان الرجولة تقود إلى الذكر الإنسان المخالف للأنوثة ، وهنا يكمن التقاء بين الإنسان وبين الحيوان في صفة ممنوحة من الله جل شانه للكل بشكل كامل .
فتاتي الرجولة كلفظ خاص ، يستطيع أن يخرج من زحام الذكورة ، بما يملك من مقومات كثيرة تتداخل وتتشابك وتتلاقى ، لتندمج وتمتزج في بوتقة تجمع من الصفات والأفكار ، ما يمكن من خلالها أن يميز الذكر المشترك بين المخلوقات بصفة خاصة يمتلكها الذكر البشري ، وهنا تبدأ مرحلة النضج والوعي والإدراك ، كتابع لمعنى المسئولية التي اشرنا لها سابقا ، فان أضفنا إلى هذا كله صفات الإنصاف والعدل ، تكون الرجولة قد بدأت تشق تربتها لتطل إلى الوجود بطريقة صحيحة في امتلاك الهواء والشمس من اجل البقاء ، وإلا ، فما الفرق بين ذكر الفأر أو الإنسان الذكر ، إذا تساويا في الممارسة والفعل بصورة ما ، بل وأيهما أفضل ، ذكر الخنزير الذي يسير على غريزة مخلوقة فيه ، أم الإنسان الذكر ، الذي يرفض الاعتراف بالْخَلْقِ الذي تكون دون إرادة منا أو اختيار.
أي بنيه ...
حين تلتحم الرجولة مع أوردنا من صفات خاصة متميزة ، تبدأ بأخذ المعنى الباطني الذي قررناه أو ادعيناه ، لذلك يبدأ التقسيم اللفظي يتبع المعنى الباطني بصورة مطلقة ، لتبدأ التصنيفات الخاصة بالصفات الملازمة للرجولة ، فهذا رجل شجاع ، وهذا رجل جبان ، وهذا رجل بطل ، وذاك اشد خورا من الخوف ، وهكذا ، إلى أن تقف المفردات عند الرجال الذين ، لا تتسع الكلمة للفظ تابع يدل على معناها ، فحين يذكر رجل ما ، وقد اشتهر بقوة عزمه وعدله ، يقول العامه ، قبل أهل الحصافة ، بنبرات ضاجة بالاحترام والهيبة والتقدير ، هذا رجل ، ولا يزيدون على ذلك شيئا ، فيصل المعنى إلى الأذن بطريقة تحمل نفس الهيبة والتعظيم والاحترام ، لتستقر بالنفس ، استقرار اليقين الذي لا يقبل أن تتبعه تفصيلات أو تدقيقات .
ولكن ، حين يذكر شخص أمام جمع ما ، ويقال عنه بأنه رجل ، نجد الكلمات تخرج بتقطيع ونبرات خاصة ، تحمل من الهزؤ والسخرية ، ما يدل على أن العامة تضن باللفظ على هذا الشخص ، كأن يقولوا : " وهل كل الرجال رجال " باستغراب يحمل في طياته النفي الذي يصل إلى مرحلة اليقين المطلق بنفي الرجولة ، بما تحمل من مضامين ، عن ذلك الشخص .
وهذا المفهوم الضمني والباطني نجده في آيات كثيرة من كتاب الله جل شأنه ، فالرجال الأشداء الذين أحبهم الله جل في علاه يأتي ذكرهم في المواقع الشديدة الحساسية والتأثير ، التي يمكن النظر فيها والتدقيق بمحتوياتها ، بشكل مركز يقود إلى ما ادعيناه في هذه الرسالة ، وإيضاحا لذلك ، لنقرأ قوله تعالى في سورة الأحزاب الآية 23 " {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }. وقوله سبحانه وتعالى في سورة النور ، الآية 37 " {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ }.
وفي المقابل ، ذكر الله جل شانه الصنف الآخر من الرجال ، ولكن في مواضع يمكن تأملها ، لنستطيع أن نسبر غور المعنى المراد الذي يجب أن نستلهمه من تلك الآيات الكريمة ، قال جل شانه في سورة النمل الآية 55 " {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }، وهنا المقصود حتما الآتي والمأتي ، ويسترسل القرآن بوصف صلافتهم وتعنتهم ، في سورة العنكبوت الآية 29 " {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }، هذا جوابهم للرسول عليه السلام ، فما بالك بجوابهم وسلوكهم مع امرأة ؟
أي بنية ...
وتتابع المفردات الفاصلة بين الذكر وبين الأنثى ، لتلتحم في التساوي بلفظ عام ، يجمع بين الجنسين ، ليساوي بينهما في كل شيء ، يأتي لفظ الإنسان ، الذي لا يستطيع دَعِي أن يقول فيه بفصل بين ذكر وبين أنثى ، وهو لفظ له مدلولاته العميقة في التشريع السماوي الذي نزل على الإنسان ، بصفته العامة التي لا تقبل التقسيم ، ولا تقبل التأويل ، لا لغة ، ولا مضمونا ، قال جل شانه في سورة الإسراء الايه 13 " {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً } ، ويقول جل شانه في سورة مريم الايه 67 " {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } ، وقال جل في علاه " {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ }المؤمنون12 ، وقوله جل شانه " {خَلَقَ الْإِنسَانَ }الرحمن3 .
أي بنية ...
بعد هذا التساوي ، في الأصل وفي الخلق والتكوين ، ووحدة الصلة بين المخلوق والخالق ، ستكون رسالتي الثالثة ، التي تضعك بمرتبة تتساوى مع مرتبة الرجل في أكثر الأمور تعقيدا ، وأهمية ، بل في كل الأمور التي تتعلق بقضية الخلق والبعث والحساب ، وهي المرتبة التي سيقف الإنسان فيها مجردا من كل شيء ، إلا من قوة اعتقاده وعمله ، وما دام الاعتقاد واليقين ، هو الفاصل بين الجميع عند الله ، فاعلمي ، وعن ثقة مطلقة ، ويقين يرتقي إلى عين اليقين ، بان الرجل من أي صنف كان من الرجال ، لا يفضلك بشيء خلقه الله جل شانه ، مهما دق أو عظم ، ومن رأى غير ذلك ، فاعلمي انه متنطع لما لا يدرك ، أو جاحدا لما يدرك ، لذلك احملي أنوثتك على محياك بفخر لا يطاوله فخر ، وعزة لا ترتقي إلى مستواها عزة ، وليغضب الرجل ما شاء له ان يغضب ، وليصرخ ما شاء أن يصرخ ، فأنت مكرمة بالخلق والتكليف ، تماما ، كما هو مكرم ، فان رفض ذلك ، فذلك شانه مع ربه ، وكل إنسان سيقف ليلاقي شأنه .
والى أن نلتقي في الرسالة القادمة ، استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 4- 8 - 2008