كنعيب غراب، طنّ في أذنه صوت الضابط عبر جاهز اللاسلكي، شفع بأصوات جذلى في الخلفية لزملاء حرب ينشدون أغاني حرب لم يخضها أحدهم، وانتصار لاتقابله هزيمة طرف آخر.
ظل للحظات هامد الحركة مشلول العقل. هل هذا ممكن؟ هل سيرحل، ويعود إلى دياره؟ لكنه ما عاد يذكر منذ مدة طويلة شيئاً عن أرض أخرى سوى هذا المكان الذي أمضى به... ما عاد يذكر.
لاشك أن الآخر مثله تماماً. يستطيع من هنا أن يلمح حزنه الشديد وكدره، ويتبين شروده وشلل عقله. ما عادت المسافات تفصل بين تخاطرهما. تطلب الأمر وقتاً ليس بالهين، من المراقبة السرية، تنفيذاً للأوامر، إلى المعاينة المسكونة بالفضول، فالإشارات بالأيدي للتواصل بينهما. ما كان لهما خيار آخر. كانا وحيدين، وأحدهما قبالة الآخر، واقتصر ارتباطهما بوطنيهما على أوامر تلقى عبر الجهاز اللاسلكي، ومؤونة تصل بانتظام. لم يتجاوزا التحية، والتزم كل بمكانه تنفيذاً للأوامر.
يلقى الجهاز اللاسلكي بذهول، ويهرول باتجاهه مخالفاً كل الأوامر. يلمحه قادماً نحوه مهرولاً.
يقف قبالته تماماً. ولأول مرة، يراه من ذلك القرب. يكتشف ملامحه متفاجئاً. يرفع حاجبيه. "يشبهني كثيراً، لكن لمَ قالوا إنه عدو. لايمكن أن يكون كذلك لأننا متشابهان. في النهاية، لاأحد يعرفه أكثر مني."
يبتسم الآخر في وجهه. يخرج علبة سجائر من جيب سترته. يمد له سيجارة. "يدخن السجائر المستوردة مثلي، ونوع السجائر نفسها، لاشك أنها تأتي على جزء مهم من راتبه، مثلي تماماً."
حين حضر صغيراً إلى هذا المكان، لم يكن يدخن. غير أن الخوف والفراغ والقرب من عدو قالوا عنه الشيء الكثير، جعلته يلقي بنفسه إلى السيجارة، العزاء الوحيد.
"هل نستورد من المكان نفسه؟"
ملامح وجهيهما متقاربة جداً. وفي نظرتهما الأسى عينه والإحساس بالخديعة نفسه.
"لاشك أن لنا السلاح نفسه، هل يبيعنا إياه تاجر الموت عينه؟"
يمج دخان سيجارته بعصبية بينة.
تلاشت النكهة المميزة للسيجارة. يلقيها كما الآخر.
يخرجان علبتي سجائرهما المملوءتين. يدعكانها بقرف. يلقياها. يدوسانها بقدميهما.
يتبادلان نظرة عميقة. "لمَ قالوا إنه عدو؟"
يمضي كل منهما من الوجهة التي قدم منها الآخر.
يقولان بصوت مخنوق واحد، وبلغة واحدة:
ـ نلتقي في حرب أخرى.
عبد السلام المودني