صوتكِ
ويسألني الذين لا يعرفون عنكِ شيئا سوى أنكِ امرأةٌ مَسَّني صوتُها: لماذا هي؟ فأكاد أجيب في حدود ما أعرفه: لأن صوتَها.. حكاية. ذلك أنني لا أعرف الجواب يقينا، وكثيرا ما كنت أنتبه وأنا في غمرة انشغالي بكِ على وقْع السؤال ذاته: لماذا أنتِ وحدكِ امتَـلكتِ غوايةَ صوتٍ مُضمَّخٍ بالشجنِ كهذا؟ لماذا شُغِفتُ بصوتِكِ قبل حتى أن أفكر في الذي بيننا إن كان له أملٌ في الصمود أمْ لا؟ أسألُني، وأُتِمُّ انشغالي بكِ دون جواب. يا امرأةً لفرطِ روعته تنحني الناياتُ أمام صوتها في خجل وغيرة مفضوحة، والناياتُ نساءٌ من قصب، خلقهن الله جميلات مغريات، كلماتهن همسٌ مدسوسةٌ فيه بُحَّةٌ لا تخلو من أناقة ودلال، غير أنك أجملُ الأجمل، أكثرُ إغراءً وأناقةً ودلالاً. حيثما كنتُ وبيننا مسافةُ غياب، ظلَلْتُ الرجلَ الذي يُدمِن صوتَكِ وبي خصاصٌ فادحٌ لاستنشاقه، كأنه فصيلةُ دمي النادرة، كأن حواسي السَّكرى المُعطلة دونَه ليست تستجيب إلا له، كأنني أعمى تُغرِّر بي المتاهاتُ ولست أدركُ وجهتي متى افتقدته... كنتُ أتصل مرات كثيرة لأسباب تستحق، ومرات أكثر لأسباب لا تبدو مقنِعة بالمرة، ومرات لا تحصى لغير سبب وأنا أفتعِلُ حواراتٍ مفقودةَ المنطق فقط حتى أسمعكِ.. أسألُكِ عن أشياء لا تهمني بالمطلق، وأتعمد مراوغتك في الإجابة عن أسئلتك، وبينهما استفزكِ بكل ما أوتيتُ كطفل مشاغب عن سبقِ إصرار وترصد إلى أن تفقدي أعصابك فتنهالي علي بعبارات مسرعة لا أفهم جلَّها، وكلُّها تفيض بذات القدر من العذوبة والسحر.
ويسألني الذين لا يعرفون عنكِ شيئا سوى أنكِ امرأةٌ مسَّني صوتُها: كيف هو؟ فأكاد أجيب دونما إجابة بأنَّ صوتَكِ أشبَه ما يكون بصوتِك لا غير، وهو الذي ليس يشبهه شيء...
صوتُك آيةٌ تتحدى قانونَ الجاذبية بكل ثقة، إذ ما إن تقولي "آلو.." حتى أسقُطَ نحوكِ، مِنِّي إليكِ، مختصرا مسافاتِ الدنيا كلَّها والنبرةُ الآسرةُ تلك ترفض الاعتراف بالجغرافيا.
صوتُك هو اللونُ الثامن بعد سُباعية الطيف، ذاك الذي وحدي أراه وقت صار من المستحيل أن أراكِ، والعيونُ المتجسسة المنصوبة شِراكا تترصدُنا دونما تعبٍ عسانا نطمئنُّ يوما لهذا الهدوء المريب فنلتقي...
صوتك لوحةٌ مفقودةُ الإطار والقماش والأصباغ، تستوقفني دوما فأتسمَّرُ حُيَالَها كتمثالٍ مأخوذاً بروعتها هي المدهشة في كل وضع عُلِّقتْ به على جُدران ذهولي...
صوتُكِ قصيدٌ غنائيٌ حينا، ونشيدُ طفولةٍ حينا آخر، لا علاقة له بالأوزان والقوافي، وليس تستوعبه الأبجديةُ، له استعاراتُه الخاصةُ ومجازهُ الخاص، وبَيانُه يُرمِّمُ قُصورَ الكلمات...
صوتُكِ مَقامٌ شرقي لم يسبقني إليه أحدٌ، تقاطعتْ عنده المقاماتُ الأخرى وقد خلَّف فيه كلُّ واحد منها بعضه.. هو مُقامي وأنا المجدوبُ في حضرته مترنحاً أتمايلُ، يتجاذبني اليمينُ واليسارُ، والقلبُ منخطفُ الإيقاعِ مُغيَّبُ الوعي أشُدُّه إلى صدري حتى لا يفارقني كلما راوده عنِّي الصدى...
ويسألني الذين لا يعرفون شيئا سوى أنكِ امرأةٌ مَسَّني صوتُها: من هي؟ فأجيب: هي امرأة مسَّني صوتُها، وصوتُها.. حكاية...