على هامش الكون كانت و لا زالت تمدُّ بيدين مُتسختين اتساخ الذلّ المهين، اتساخ الفقر المدقع ...الجوع القاتل...الأسى والحسرة...اللوعة والفجعة، بعدما كانت قمراً يجلس في حضن السماء!.
الشمس تعكس أشعتها الحارقة على وجهها القاتم قتامَة الذلّ المهين، الأيـادي الحصِيرة تزورها هُنيهةً ثم ترحل من دون بذُول و لا عطاء، الأيادي الكريمة تودعها من دون تقبيل حارٍ كحرارة الشمس، الأيادي تقترب من دون أن تقترب!، على رصيف الكون
تجلس وتنظر....
تتسولُ و تَتَوَسلْ...
قطرة ماء بل زَخةُ غيث...
لُقمة عيش بل فُتَاتُ خبز ...
في وضح النهار...في غسق الليل
الأنوار تتوهج في منازلها، ضحكات الأطفال أبي..أمي، عناق الأباء للأمهات زوجتي.. زوجي ... عناق الحبّ للقلوب.
كانت قمراً يجلس في حضن السماء ...واليوم ...ماذا هي اليوم...؟؟؟.
وَدَقَ النهار ككلِ يوم و لازالت في مكانها صنما ساكنا...هـا هو آتٍ،لم يكن كغيره من الزُوَار القلقين، بل كان يعشق تقبّيل أصابع رجليها الذابلة...تقبيل بطنها الشبعان بالجوع الشهي...!، تقبيل جبينها المُطأطأ... تقبيل شعرها المُشعث المتسخ بريح الشمال والجنوب...الشرق و الغرب...يُقبّلها ككل يوم من الأسفل الى الأعلى ثم يأبى أن يغادرها الا أن يعاود تقبيلها من الأعلى الى الأسفل...
رفع النهار أجنحته بعدما سئم من تقبيلها ليزوغ في موطن الظلام، ليُخلق الجميل و يطرّز السماء و من حوله بنين و بنات، هم يتسامرون ...هم يتغازلون و هي تبكي...و تبكي.
اللقيطة في حضنها ترتوي بسخاء العيون، لكنها لم ترتو من ثدي أمها الهَرِم قبل أوانه، لم ترتو بزُلال حنان الحنان، اللقيطة تبكي...و تبكي...و تبكي:" أمـآه الموت قـادم.. أمـآه الموت يخنقني...أمــاه الموت يأمرني بالسجود له طوعًا و كرهًا ،الموت أمـآه ... الموت".
جنح النهار من خلف حجاب الليل الأليل...هذه المرة مُتأججا ساخطا،لم يأت اليوم ليغازلها بالقبلات، بل ليطعنها باللعنات، الأم لا تسمع لِلَعْنِ النهار، بل تسجد مع فلذة كبدها أمام رجليه...الجوع قد شبع من الجوع...المَذلة قد زينت عينيهما وشفتيهما وفخذيهما وأصابعهما .
اللقيطة تتكلم من دون أن تتكلم!، نستِ اللقيطة الموت الغاصب و طفِقَت تلعن أمهـا، يرتفع بُكاء الأم و يرقى...الصوت يغازل أقاسي الكون...علياء السماء، بُكاء الأم اللعين يُزعج القمر في عرشه...القمر يضع أصابعه في أذنيه...القمر لا يحب البكاء بل يحبّ الابتسامة العطرة الطاهرة .
الأسى أضحى قول قديس يرتلانه أنـاء الليل و أطراف النهار...التضورُ نسج من دُمُوعهما نهراً يسقي الكون ومن عليه، المذلة و الأسى....التضور و الجوع، كرمُها الجَشِع سلبها الحياة ورماها من دون حياة...و أي حياة؟!.
ظهر الموت...
آآآتٍ من بعيد...يقترب أكثر و أكثر...من كل جانب...ليس بلباسه الوسخ النتن...بل بلباس أبيض جميل...يريد أن يتزوجها...يوَدُ أن تكون هذه آخرة ليلة يسمع فيها الأنين...يريد أن تكون هذه الليلة
صاخبة...
حمراء...
كالدم ...
يأمرها كملك فاجر أن تستلقي على ظهرها...يرتمي بين حناياه...بعدما كانت قمراً يعرشُ صفاء السماء...هو يتقن فنون المضاجعة،لم تشهد مداعبة بهذا القبيل...يغرس أصابعه بين سنابل شعرها الأصفر الذابل... يمسح دموعها الجريحة حتى لا تهطل على جسد اللقيطة الطاهرة الخبيثة فتحرقها...يضمها بقوة ... الأنفاس تسغي للأفُول... اللقيطة في حضن أمها ...الحياة تختنق... العيون تشخص للانهاية ..الدموع تجف في محاجرها...الأيدي تتلاشى....اللقيطة تفلت فتسقط من على حضن الحنان الرؤُوم...الموت حنون لأنه احتضن من هي أحنُّ منه...حنون لأنه احتضن من تصدقت بما هو أغلى عندها في الوجود ... الموت لا يرحم ...كيف له أن يرحم من لم ترحم نفسها...الموت يقتل الموت... الموت يضحك ..الموت يُقَهقِه ...و اللقيطة على هامش الكون...
تبكي...
و تبكي...
و تبكي...