في مقهى الكرنك، وإلى طاولة في زاوية المكان.. كنت أجلس.
حدث ذلك في لحظةٍ لواحدة من لحظات الميلاد الكونية التي قليلا ما تتكرر.
كان صخباً وضجيجاً يملأ المكان قبل ثوانٍ قليلة من تلك اللحظة.
الرفاق يتسامرون.. قهقهاتٌ تعلو هنا، وجدالٌ يحتدم هناك.
والنادل يتنقل بالمشروبات من طاولةٍ لأخرى، تحت غيمةٍ من الدخان استبدّت بالمكان.
كانت عيناي تراقب التفاصيل بعنايةٍ مركّزة، تحضرني فيها اللفتات والهمسات، ويستبد بي الفضول لكل نقاشٍ تعاظم واحتدم.

كان كل ذلك وأكثر هو ما سبق السكون الذي ابتدأ في اللحظة التي دلفتِ فيها الى المكان.
بعدها سكنت الأصوات جميعاً. السكون من كل شيء - إلا مِنْ نغم الموسيقى الذي ابتدأ مع خطواتكِ وأنت تتقدمين- فوق بساطٍ ملوكي أحمر مقصّب، أنبتته الأرض طوعاً أو كرهاً.. لا فرق. فتلك نواميس الطبيعة عندما تكونين في المشهد سيّدته.

في كل خطوة انتقلت فيها قدماكِ، كانت نغمة بيانو تتخلّق بأثير تلقائي كأروع ما تنشره الألحان من أشجان.
دو.. ري.. مي.. فا.. صول.. لا.. سي.. دو "

على الترتيب أو "لا على الترتيب" كل ذلك لا يهم.
المهم أن اللحن كان نهراً خالداً في استرسالٍ آسر.

لم يبق في المكان صوت لحديث أبداً، إلا لتراتيل ألف آية من مصحف،ْ خُطَّتْ فوق وجهكِ الصبوح..وفي طهرٍ لا يتكرّر.
ومن المفارقات التي رُويتْ بعد ذلك، واستمرت لعدة قرون، أن البسملة نطقها بريقُ عينيكِ.

ذابلةً تلك الورود فوق طاولات المقهى - قبل مجيئكِ - كانت.. استنهضها عَبقُ حضورك فانتصبت بتلاتُها، أبيضها وأحمرها وأزرقها. واصطفت في انتظام طابورِ عسكر، تحيي حضوركِ المهيب. وأُعلن ابتداء الموكب بهذا النجم الذي لا يغيب. وما إنْ وافيتِ الرعية بالتحيات، حتى امتلأ المكان بالطيبات. وابتدأت بهجة الأوطان. ومن غير قصد مني، قادني الفضول لأستطلع ما حلَّ بالدخان الذي كان يملأ المكان. ومن مفارقات عجيبة، أنه زال على الأثر، وحلَّ مكانه بريق فراشات بلوريّة،ٍ ملأت أجواء اللحظات والزمان.

جالتْ عيناكِ بكل أرجاء الكرنك، وباركت نظراتكِ كل من كان فيه.
فقط بقعة منسية منه لم تحظى بهذا التكريم الخالد..
ركن طاولتي ..
تجاوزْتِـها بكبرياء عنقاء.

ومن المفارقات الصارخات، أن جميع من في المقهى " كانوا مجرد تماثيل"
أنا .. أنا و حدي، ومن بينهم جميعاً، كنتُ الشاهد الوحيد على عصر حضورك.

ولتعلمي.. بأني، عن زيارتك الملكية أتحدث.