كانتا قدماي بالكاد تحملاني وأنا أسير بمحاذاة الطريق السريع للسيارات من الحي السادس بمدينة نصر وكنت قد نويت الذهاب إلى أحد معارفي بمنطقة " السيدة عائشة " والذي اتصل بي ليخبرني أنه وجد لي عملا بإحدى المصانع وأن لديهم مبيتا بالمصنع أستطيع النوم فيه، وكان هذا الإتصال كالنجدة إذ لم يكن في جيبي ولو ثمن فطور في الصباح التالي وكان العام الدراسي بكلية الشريعة والقانون قد بدأ منذ شهر ولم أشتر بعد ولو كتابا واحدا ، فقررت الذهاب من مدينة نصر للسيدة عائشة سيرا على الأقدام.

أصابني التعب أمام منطقة ( طرب الغفير ) وهي مقابر تقع بين منطقة الدويقة ومنشأة ناصر وبين الدراسة والأزهر ، جلست قليلا فإذا بعيني تقع على إحدى المقابر وقد كتب أعلاها بيتي شعر لفتا نظري جدا .. فلم يكن ثمة ترفيه ممكن في تلك الفترة إلا شراء بعض الدواوين من الشعر الجاهلي من أرض المعارض كل موسم ، كانت أرخص الكتب فلا يكاد يشتريها أحد فمن الذي يقرأ الشعر الجاهلي بعد ؟!
فكان لديّ موروث من هذا الشعر جعلني أقف أمام المقبرة متعجبا من حلاوة بيتي الشعر اللذين كُتبا أعلاها وقررت أن أمتحن نفسي في نسبة هذا الشعر إلى قائله فحفظتهما جيدا حتى أبحث فيما بعد عن قائل هذا الشعر وكان الأمر كله مجرد (تسلية) وإشغال لتفكيري عن قدمي التي لم أخلع عنها الحذاء منذ يوم كامل وجسدي الذي لم يتمدد على سرير منذ يومين! وبعض الرؤى السوداوية الباقية من ظلم الأقربين في الصغر تفرض نفسها بين الحين والآخر في مخيلة مكتملة الأبعاد ، كان الشاعر يقول :

إذا انقضت عني من الدهر مدتي .. فإن عزاء الباكيات قليلُ
سيُعرض عن ذِكري وتُنسى مودتي .. ويحدثُ بعدي للخليلِ خليلُ

تعجبت من هذا الشاعر الذي يواسي نفسه بعد موته ، وأحببتُ هذه الروح التي تدرك أن لا أحد يبقى ، وكل شيء زائل ، حتى أن ذكرك نفسه يموت هو الآخر .. ثم أحببت أن هذا الشعر بقيَ رغم أن قائله مات منذ مئات السنين .. ولم أجد في ذاكرتي حينها مسعفا فلم أكن قد قرأت لناقدي الشعر أكثر من الشعراء أنفسهم ، اللهم إلا طه حسين ، ولم يكن هذا الشعر في نظري وقتها فيه من روح الشعراء الجاهليين شيء فقد بدا منظما جدا ، تماما كما كان يجزم طه حسين في أن أكثر الشعر المنسوب إلى الجاهليين هو منظوم في العصر الإسلامي لأغراض أخرى فتحت عليه نار جهنم ، تحديت نفسي في ان قائله واحد ممن سكنوا أرض العراق ولم أستطع تحديده إلا بعد فترة حين تذكرت هذه الواقعه فوجدته ( أبو العتاهية ) وكان بالفعل أحد سكان العراق .

قررت إكمال مسيرتي إلى السيدة عائشة وعلى مشارفها سألت أحد المارة ( فاضل كتير على السيدة عائشة ) فنصحني بركوب مواصلة أفضل ثم يبدوا أنه لاحظ حالة الإعياء الشديد التي أنا فيها فأخرج رزمة أموال كبيرة من جيبه وحاول أن يعطيني منها شيء فرفضت تماما ووقفت أنظر إليه بعد مروره وأنا مصدوم فيما وصلت إليه من حال ، هل أصبحت أبدوا ( كالشحاذين ) !!
أكملت المسير وأنا أشاهد في مخيلتي فيلما سينمائيا من صنع خيالي المحترف للميديا يجمعني بذكريات مع الوالد الذي كان من الأعيان ، ثم سواد قاتم بعد موته لم أتحمله فكان هروبي إلى هنا .. أما هنا .. فلم تكن الحياة بسيطة أبدا !

في المصنع .. كانت البداية ككل البدايات .. لم أنسجم يوما مع العمال ، أغلبهم كان من الشباب الغير متعلم ، ولا يبدأ يومه في العمل بدون المخدرات .. وبالطبع كان التعايش المفترض بين طالب شريعة لا يعرف غير الكتابة وبعض الخبرة بالإليكترونيات وبين من لا يعرف القراءة والكتابة أصلا ضرب من الجحيم الذي سرعان ما كان ينتج عنه شجار .. وإصابات .. ثم بحث عن عمل آخر .. هكذا قضيت أغلب سنوات الدراسة التي لم تستمر وقطعتها لسنوات !!

قبل تركي هذا المصنع .. كان ثمة موقف أعددته طريفا لكنه أحد المواقف التي وقفت أمامها بتأمل فيما بعد .. إذ كان صاحب المصنع مسيحيا في الأربعين من عمره .. وكان دوامي ليليا أغلب الأوقات لكن مع ضغط العمل كانوا يستعينون بنا في الدوام النهاري بلا نوم لقاء بعض الجنيهات الإضافية ، وكان الجميع يقبل فأغلب الشباب في المصنع تساعدهم المخدرات على البقاء يقظين فترات طويلة .. وكنت أنا بطبيعتي .. لا أعرف النوم إلا حين أسقط من التعب.

كان يوم جمعه ، وتوقف العمل للصلاة ، عدت مبكرا من المسجد لأجد المدير المسيحي يستمع باهتمام إلى حديث الشيخ الشعراوي في التلفاز ويهز رأسه ، وقفت في الظل أراقب هذا التصرف حتى شككت أن هذا الرجل مسلما بالفعل لشد ما كان يتفاعل مع قصص الشعراوي وتفسيره للقرآن .. ثم دخلت إلى المكان فلاحظني واعتدل في قلق ، فشككت أكثر في أمره ، كان يعرف أنني طالب بالأزهر وكان يتحدث معي أحيانا في أمور دينية أو تاريخية ومعجب بردودي وكوني في هذه السن الصغيرة لدي معرفة بأمور كثيرة ، ومرت فترة صامته حتى بدأت أنا بالحديث بحذر:
- هو حضرتك بتسمع الشيخ الشعراوي ؟!
- اه ، راجل محترم كلامه كويس .. انا عارف انت دماغك رايحه فين .
- هي بصراحه رايحه ، بس بحاول أفهم.
- تصدق بالله يا محمد.
- اهي دي لوحدها غريبة بردوا انا مش متعود ان مسيحي يقول كده لأن طبيعي هقول : لا إله إلا الله ، فاهمني ؟
- بص .. أنا مسيحي ، وبعتز بديني ، بس هقولك على سر ، أنا مبفهمش ولا كلمة في الكنسية.
- أنا اعرف إن الإنجيل باللغة الأرمينية أصلا بس هو مش فيه ترجمات ؟
- لا ، التراتيل والحاجات دي بلغتها الأصليه عندنا مشكلتي اني مبفهمهاش.
- عامة انا بطمنك ، لا المسلم بيصلى ولا عارف دينه اصلا ، ولا المسيحي بيصلي ولا عارف دينه أصلا ، مصر دي مكنش بيسلك فيها الا اليهود اساسا

فكاد الرجل يقع من كرسي مكتبه من الضحك وحمدت الله على الخروج من هذا الموقف فقد بدا الرجل صادقا جدا في كونه يدين بدين .. ورثه ولا يفهمه ، ولم أشأ أن أصارحه بما ورثته أنا .. ولا أفهمه أيضا !
......
محمد سلامه "2006"