خلف أسوار المدرسة
في صباحٍ هادئ داخل صفٍ صغير، جلس المعلم بين طلابه يفتّش في ذاكرتهم عن جذورٍ تمتد في أعماق الأرض. كان الدرس عن تاريخ الأوطان، وحين وقعت عيناه على أحد التلاميذ من الكُرد، أراد أن يختبر معرفته فقال:
– يا بني، أين كانت ولادة جدّك الرابع؟
توقف الصبي قليلًا، ثم قال بخجل:
– لا أعرف بالضبط… لكن ما أعرفه أنّه لم يولد في العراق، لأن أهله لم يكونوا يعرفون العراق بعد.
تعجب المعلم، وسأله:
– إذن أين كان أجدادك؟
أجاب الصغير وهو يستعيد ما سمعه من أبيه:
– في غرب آسيا، على سفوح الجبال الممتدة من العراق حتى إيران… وبعضهم واصل الطريق إلى أبعد من ذلك، حتى أوروبا.
ازدادت الدهشة في وجه المعلم، فسأل من جديد:
– وكيف جئتم إلى شمال العراق؟
ارتسم على ملامح التلميذ بريق ثقة وقال:
– بعد ثورة العشرين، ثورة الفالة والمكوار… حين هزمت عشائر العراق بريطانيا، قررت الأخيرة أن تجعل من الكُرد ذراعها الأيمن ضد العرب. فمدّتنا بالسياسة والدعم والمال، لتبقى لها موطئ قدم في هذه البلاد. كانت تلك فرصتنا للبقاء هنا، وأصبحت لنا هوية عراقية نحملها، مع احتفاظنا بقوميتنا الكردية. واليوم… كما ترى، نحن أصحاب أرض وعلم.
ساد الصمت أرجاء الصف. شعر المعلم بشيءٍ يضغط على صدره؛ خليط من الحسرة والفخر. لم يجد ما يقول، فأغلق دفتره واكتفى بنظرة عميقة حملت اعترافًا بالواقع: أن العراق بلدٌ تقطعت أوصاله بأكثر من غازٍ ومحتل، ومع ذلك ظلّت جذوره ضاربة في عمق التاريخ، تنبت أبناءً شجعانًا مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم.
وفي داخله، تمتم بحمدٍ خافت:
"الحمد لله أن العراق ما زال حيًّا، رغم ما حصل… وما سيحصل."
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي