الحاجة أم حسين

كلّ شيء كنا قد أعددناه بدقة متناهية للبقاء قربك، لاحتضان ربيع النور الذي كنت أتلهف إليه للمثول بين يديك أنت أيتها الرحمة الظليلة في ذاكرتي التي لم تنساك أبداً.
هانحن نقتسم رغيف الخبز فيما بيننا بصمت وسكينة وفرح قلوب، كلّ شيء كان معداً لتضليلهم وكان لابدّ أن يحدث هذا معنا، لا أجمل من إشراقة الشمس على نور وجهك الوضاء،ولا أروع من ابتهاج لجين القمر على محياك المتربع مثل سلطان مجيد، ولا أحلى من موسيقا النجوم وهي تتراقص من بعيد لتعلن عن بهجة الوجود في وجودك، لقد خُلقَ كلّ شيء من أجلك أنت فقط، ولأجلك أنت .
سنين عمري التي ذهبت سبقتني إليك ليلة ناجيت ربي ودعوت باسمه حتى اخضلت عيناي، تركني زوجي وحيدة أصارع الفقر كي أربي أودلاي على لقمة شريفة، هذا كل ما كنت أملكه عفة وإرادة على تحمل شظف الحياة وأوجارها.
هو مات، لكنني بقيت على قيد الحياة أتحمل برد الشتاء وريحه القارصة وأمسح بيدي جبيني الذي يتفصد عرقاً في فصل الصيف وأنا أحمل المكنسة وخرطوم الماء لأنظف صفوف وممرات وأدراج ومكتب المديرة ودورة المياه، لم أتعلم، حصلت على شهادة محو الأمية وسعيت أن أكون عاملة في قسم المستخدمين بوزارة التربية لأحصل على راتب أقدر من خلاله أن أعيش وأولادي خاصة حسين هذا العاجز المسكين.
وتحولت سنوات عمري الطويلة إلى أوجاع وآهات وأنات بدأت تتراكم رويداً رويداً وشيئاً فشيئاً، حتى أوهن داء المرض عافيتي وما عدت قادرة على متابعة العمل، فبدأت أنقطع عن الدوام وبدأت أدور على عيادات الأطباء لأحشو معدتي بالحبوب المسكنة من الآلام فشفائي صار مستعصياً بل مستحيلاً.
من يسأل عنك، إسأل عليه .....

وزارتني من حسبتها لا تزور أمثالي، فمثلي لا تزوره المتعلمات من أصحاب الشهادات!
هل بدأ الزمن لحظتها؟
هل سوّى بين مرتبتينا؟ هل تساوينا؟
كل الذي أدريه حين دخلت بيتي المتواضع الصغير أنني كنت في حالة تشبه الغيبوبة، حسين يرفع رأسي عن المخدة ويقول وقد ابتهج قلبه:
- انظري يا أم حسين من جاء يزروك ؟

دعني أتزود ببعض عافية لأرى هذا الوجه، وجه قدر ما أحببته قدر ما نفرت من بعض مطالبه وصرامة تشديده .
ربما كنت على حق، لأنني كنت أجهد نفسي بما لا يتلاءم مع راتبي، لكنني اكتشفت وفيما بعد أنها على حق، كلانا كانا على حق!!

شعرت بالخيبة من قوتي التي خانتني، لقد عاودتني الغيبوبة فخرجت من دون أن تسمع مني ولا أي كلمة!

تُرانا لم نشفّ من عقدة النقص؟
قلت بشيء من الوجع:
- ماذا أحضرت معها؟
أعترف أنني فوراً وضعت المبلغ داخل صدري تحت قميصي الداخلي، وكانت تعاودني الذكرى، حمامات الأطفال، سلالم الدرج، الممرات، فناجين القهوة التي لاتهدأ ولا تستريح، الغاز الذي ينفد ويثير لديها الشكوك والسؤال المربد!!
أكتشف ذلك الوجع الموغل في عظام جسمي الذي تهالك مع آلام بطني حين تئن في داخلي حمى أمراضي، فأعود لأدخل في غيبوبة تتكرر كل يوم عدة مرات.

هنا رأيت عظمة الأشياء، إرادتي التي تمت مع أمراضي ظلت قوية تبثني نسغ الحياة وتزودني بطاقة تغادرني فجأة وتعود إليّ فجأة!
وتنهدت تسبقني ابتسامة مريضة وأنا ابتلع غبطتي الغامرة بشيء من المواربة والحنكة، وبحسرة يلوكها ألمي المستعصي شفاؤه قلت : - هل تسخرين مني؟
أجابت كما عهدت فيها هذه الثقة الأفلاطونية:
- فقط وافقي أنت والباقي علي!!

كانت حالة استثنائية لهذا أحببتها، وبدمعة مكابرة في عينيها احتضنت رأسي وقبلته ثم قالت: - جهزي نفسك.

عين واحدة استطاعت أن تجعل الدمع يهمي منها، فالأخرى كانت بيضاء لا حركة فيها ولا رؤيا، دمعة موجزة وقفت على خدي قبل أن تنحدر نحو الأسفل وصرخت بصوت عال: - حسين لقد قررت أن ...؟!
- ماذا تقولين؟
وتركت حسين وزوجه بحالة دهشة وأسرعت أستخف ما أقدر على حمله من حوائج وأشياء صغيرة تنفعني في سفري هذا.

سمعت من شق الباب ابني حسين يقول لزوجته بصوت مهموس:
- هل جنت أمي؟ يبدو أنها فقدت عقلها!!
استصغرت حديثه عني بهذه الوصمة الخالية من الصحة، لقد نسي جنونه يوم خطبت له وماذا فعلت بنا أم العروس وهي تتشرط وتتبرم وتتطلب وأنا أحار من أين أؤمن لها كل هذا .
وتفجرت في داخلي حسرات ومواويل وجع فكل هذا الشقاء من حقي أنا وحدي أم حسين، البنات بيتهن شاغر، ويدهن قصيرة لاحول لهن ولا قوة، وقد ملأني عجز حسين برجله اليمين حزناً على حزن ودمعاً على دمعٍ.
لقد همدت حرارتي التلقائية نحوه واستقرت عليك أنتِ أيتها الحلم الاستثنائي لموجة من فرح أهدتني إياها سيدة التواضع أمل.

كنت أتمهل ملك الموت وأرجوه أن لا يقترب مني حتى أحقق حلمي، بعدئذٍ سأمنحه الروح والقلب ليصافح جسدي طين الأرض، قالوا: الجبال لا تلتقي، البشر هم الذين يلتقون، واهتزت أوتار فؤادي شدواً وطرباً حين التقيت ببعض صديقاتي ممن شاركنني هموم الخدمة في مدارس بلدتنا، واتفقنا.
أمل تبحث عني، تذيع اسمي من خلال مكبرات الصوت، لقد خنت المرأة! بعيني الوحيدة كنت أراها تتلفت عن يمناها ويسراها وقد أربكها اختفائي فجأة، انتهت مدة العمرة وعادت سيدة التواضع تجر خيبتها ومرارها على فقداني وقد كسا وجهها حزن أصفر، وراحت الأيام تجري مسرعة ونحن نتحنط بالصبر داخل غرفة صغيرة استأجرناها من امرأة مصرية مات زوجها وتركها وحيدة تعيش على ما تحصل عليه من أجور لهذه الغرفة حتى جاء موعد الحج، كانت مناسك الحج أجمل بكثير من مناسك العمرة، أخيراً أصبح اسمي الحاجة أم حسين بدل "الحجة" أم حسين.
الذي أريد أن أعرفه الآن : هل ما فعلته يعتبر ذنباً ؟

نظر الكاتب في وجهي بعد أن أطفأ آخر سيكارة وقال وهو يبتسم : لقد كتبت كل قصتك بحروف روحك وهذه نسخة قدميها لأمل حتى تعرف أنك ما تزالين على قيد الحياة!!!

9/ 1/ 2007-04-12الساعة