صفير الغول
بقلم سها جلال جودت

ما كنت وحدي أبداً...!؟

أيقنت من مغارة الشيطان التي ألفتها ومن ركود الحياة التي نامت بسمة طفولتها في داخلي، أنني طريدة !؟
صارت أحلامي شبه مغمورة، فمنذ أن وعيت على الدنيا وعرفت النطق وبدات في الكلام، خمدت رنة الضحكة ثم تلاشت!!
لم أختر قدري، كنت مرغماً ولم أكن أملك القوة لصدِّ النكبات التي كان يحيطني بها.
ولدت وحيداً وعلى خمس بنات، وكنت امتلك ذاكرة يعجز العرافون والحكماء عنها!!
كان اسمي من الأسماء الرومانسية الجميلة، تمَّ اختياره من قبل والدي، وحتى لا أكون ظالماً رضيت أن أكون المظلوم، فعندما كنت ألعب بالكرة التي اشترتها لي أمي، ارتطم وجهي بالحائط، تلاشى الضوء من أمامي، امتلأ فمي بالدم، رحت أبكي حتى كاد أن يغشى عليّ، يومها ضربت أمي على صدرها وأصبحت ملتاثة لا تعرف ما تفعل وهي تصرخ:
- راح لسان الولد.. راح لسان الولد.

اعتبرت هذا ومضة من ألم لن تتكرر، فالطفل يقع ويصاب وتحرسه الملائكة لتكف عنه يد الأذى، فجارتنا أم رضوان قالت لأمي وهي ما تزال تشرب قهوتها:
- لا تخافي، سيلئم وحده.. "الله قدر ولطف".
بينما سرحت أنا في لجة من السواد وأنا أتخيل لساني المثقوب عندما سمعتها تقول لخالتي التي جاءت على الفور:
- لن تصدقي أننا لو وضعنا فيه عود كبريت لدخل، "الله ستر".
2-

بغتة تخلخل المدى من أمامي، عاد إلى قهري، اشتاق إلى صوت بكائي، تشظى صراخي، كانت الآلام أقوى من أن أحتملها!

كنت أنزل على سلالم الدرج مع أختي التي يحبها أبي أكثر مني فانزلقت رجلي وتدحرجت بشكل سريع ومريع وكان كسراً في كتفي!!

لم تتضح حالتي أمام جارتنا أم "ديبو" التي دخلت علينا تمشي كالسلحفاة، فلم أكن ولدها حتى تستعجل في المجيء، وما كان أحد ليخفف آلامي.
كانت حريصة أن يظل إلى جوارها، أينما ذهبت تأخذه معها حتى كدت أحسب أنه مايزال عالقاً في بطنها، مدلل جداً، وكنت أسمعهم يقولون: القرين يقتل أطفالها لهذا سمته "ديب".

وكمن به خبرة شمرت عن ساعديها وبللت أصابعها بلعاب فمها وحركت يدي وضغطت على كتفي بعد أن قالت:
- بسم الله الرحمن الرحيم

تحول بكائي إلى زعيق مكهرب حتى تلاشت كل قدرتي الطفولية على الصمود، وعينا ولدها "ديب" ترمقاني بخبثٍ... "لماذا أحضرته معها؟ كي يشمت بي!!"

ابتعدت عنهم وصفرة الآس تزداد في وجهي والسخونة تسري في عروقي ونظراته تثقبني..!

اخترت كرسياً بعيداً وجلست أستجمع شيئاً من قوتي التي أنهكها الألم حدّ الإعياء وتلك قالت : الولد مرضوض . ومضت إلى شأنها.

بقيت أرتجي إخماد الأنين لأسكت صهيل البكاء في داخلي حتى بدا الورم واضحاً وارتفعت حرارتي فلم أنم تلك الليلة.

ووالدي هو الآخر زاد الطين بلة حين احترب مع أمي باشتجاره معها قائلاً لها:
- أنت السبب .
كيف جاء ذاك الصباح لا أعلم! كل الذي عرفته أننا ونحن داخل السيارة كان الصمت يخيم علينا رغم ضجيج الحركة في شوارع المدينة، وحيث أشارت أمي كنا بعد بضع دقائق في شارع باب النصر.
وبمهارة دقيقة لمن كسبت يده فن المعالجة والتجبير طلب صورة شعاعية.
سألت أمي والقلق يزين وجهها:
- أين ؟
ردّ عليها بتبارد تفوق مهارته:
- بعد عشرة أمتار من هنا على الرصيف المقابل، يوجد مصور مختص.
أعتقد حينها أن أمي دفعت مبلغ ثلاثمائة ليرة من دون أن تساومه! وأجزم بلا شك أيضاً أنه اشترط عليها هذا قبل المعاينة والكشف، وبما أننا فقراء وكنت صغيراً حينذاك فلم أسألها من أين حصلت على المبلغ؟!


3-

وبسرعة خؤون رجيم ، يبيع ضحكة الأطفال من أجل ازدياد أسعار البورصة في بنوكه الفاشية قذف بي إلى كهف تعج فيه الخفافيش وتسرح في جحوره عقارب الموت، وضعني على الهاوية ووقف يتسلى، تساءلت؟
- أين الملائكة ؟ هل صعدت إلى السماء وما عادت تنزل إلى الأرض لترفع عني هذا الضيم والخذلان ؟! أريد أن أحلم .......


كانت أختي سوزان مقربة إلى والدي أكثر مني رغم أنني وحيد وعلى خمس بنات، تشده بجاذبية كلماتها وضفائر شعرها التي تنوس على منكبيها كلما ركضت نحوه كي تستقبله وتقبله بدلع بينما ألوذ داخل قوقعة غيرتي وحقدي وحتى يزداد هذا الكره دخلنا الحمام معاً وبلا إدارك لما فعلته أختي فتحت اللولب فسقط الماء المغلي من "الدوش" على صدري بعد أن انتشر البخار كالضباب لاهباً حارقاً!!

انتزعت حنجرتي من مكانها وعلى صدى الصراخ أخرجنا والدي من الحمام ومن غشاوة عينيه أو بالأحرى جهله راح يعصر الملابس علي، فانتبهت أمي وصرخت بهلع :
- أعطوني المقص يا بنات .

بلا تردد قصت ملابسي ونظرت إليّ بذهول ممزوج بدموع لم أعد أحس بحرارتها لأني حينها بدوت كالمسلوخ عن جلده، والإرجاف زادتني صرعاً، لم أعد أبكي، شعرت كأن شيئاً ما في داخلي قد نما؟!

ولكي ينمو هذا المنتمي إلى شخصي، هذا الكائن الآخر المجهول الذي يناديني باستمرار، هذا الذي لم يعد وهماً ولا حتى مجرد اختبار بولت داخل الصف، نعم لا تستغربوا، فالمعلمة شخصياً وبثقة مطلقة قالت للتلاميذ الذين ضحكوا عليَّ:
- هذا أمر طارئ ، من الممكن أن يتعرض له أي طفل!!
الساذجة دافعت عني من دون أن تعلم أنني كل ليلة أغرق في بركة من البول تجري كساقية على فراشي رغم وجود "الحفاض"، ومع هذا كنت أذهب إلى المدرسة نظيفاً تفوح مني رائحة الكولونيا .

4-
أردت أن أنطق الجرح فيه وأنتقم منه فنظراته الشامتة وابتسامته البلهاء حين بولت داخل الصف أوقدت في داخلي سموم الحقد عليه، الملائكة فوق وأنا تحت سأفعل فعل المنتقمين.
رميته بحجر حملته من الأرض فلم تصبه، الذي أصابه البلاء أنا، لقد وقعت على الأرض فانكسرت أسناني الأمامية وغاص بعضها داخل لحم اللثة مما اضطر والدي ترافقه أمي إلى نقلي إلى المشفى لإجراء عمل جراحي.


5-

اشتريت المفرقعات كي أخيف المارة وذات مرة سولت لي نفسي أن أفعل هذا داخل الصف، حينئذ طردوني من المدرسة، لا عودة من دون حضور ولي الأمر، وولي الأمر لن يتوانى عن ضربي وسبي ولعن ساعة مولدي لهذا لم أخبرهم.

وبدأ الأذى يستشري في داخلي فأحفر قطع الأثاث بالدبوس أو السكين فعقوبة والدي لم تعد تهمني ولا شكوى أمي فأنا على حد قوله: لن أكون غير طرطور.

وكنت أضحك في سري "إذا كنت أنا طرطوراً" فابن من أنا ومن هو والدي؟ وأغيب في سراديب نداء الصفير المجهول الهوية الذي يناديني فأستجيب له.
أخيراً سأكون رجلاً، اليوم بالذات خشن صوتي وانتابت مشاعري نشوة فرحت عليها ذكورتي، لكنني ما زلت أبول، حاولت ستر سوءة فشلي اللإرداي فلم أنجح، ناداني وهو يصفر، صفرت مثله، فأنا لن أكون ماجلان او ابن بطوطة، أرخميدس وهو بالحمام صرخ: وجدتها، وجدتها.
وأنا وجدتها، اضحك، اضحك، قلت لك: اضحك، الليلة سنضحك معاً.
بهدوء نهضت، خلعت ثياب النوم المبللة بالبول واقتربت من أختي الأصغر مني، كانت نائمة مستريحة كالملاك، لم أكترث، بدلت ثيابها بثيابي ورحت أغط في نوم عميق شاعراً بسعادة الانتصار.

6-

أرهقتها، هي من شهرت بي أمام الداخل والخارج، المسكينة انهارت، طاش صوابها حين عرفت أن والدي لن يعود أبداً، والطرطور كره المدرسة وفكر أن يكون سيد البيت وسوف أزوج أختي سوزان بطريقتي أنا وبمن يعجبني أنا.

7-

ظلت حالتي في البول كل ليلة ترافقني لهذا كرهت حلول الليل، أرتجيه حين يأتي أن يرحمني ولو لمرة واحدة، لا أحد مقدار عذابي وكيف كانت الليالي تمر عليَ وأنا أنام على المشمع السميك الذي يسبب لي البرودة والضيق ومع هذا كانت تغسل كل شيء مكرهة، ولو قلت لكم أنني كنت أضع كيس نايلون بين ساقي هل كنتم تصدقون أنني أكره أن أكون هكذا !!

وحتى أثبت شخصي المأزوم أصبحت مدخناً هذا ماكان يناديني إليه صفير الغول فأنفذ بطواعية وبلا تفكير حتى بهرتني وشلت قدرتي على التفكير حين صرخت في وجهي:
- ما دخلك أنت ؟!

أول طير يفلت من يدي، لبست سوزان خاتم الخطوبة من دون الاستئذان مني أو حتى مشورتي أي طرطور أنا؟
وعندما اكتشفت أمي أني أسرق من جيبها ثمن الدخان كاد عقلها أن ينفجر خاصة حين علمت برسوبي وعدد أيام غيابي التي تجازوت الشهرين.

8-

أدرت وجهي ذات اليمين وذات الشمال أفتش عنه، أين هو؟ ومن يكون؟ من أين يأتي ذلك الصوت؟ أنا طرطور ، أنت أيضاً انضممت إليهم لتعيرني مثلهم، سأريك إذن!
في المساء تكورت داخل فراشي الرطب ورحت في نوم عميق، استيقظت على صوت صراخها الغاضب، طلبت مني أن أشتري خبزاً لأنها مريضة ولن تقدر أن تنزل إلى السوق، نظرت في وجهها، شعرت بأني أراها لأول مرة.

كنت أمشي، أدور من مكان إلى آخر، تجولت في أكثر حارات حلب وشوارعها حتى وجدت نفسي أمام القلعة، درت حولها مرتين ثم وقفت في الجهة الشمالية، تراءت لي فكرة قتلها داخل القلعة: "ماذا لو قتلتها في حبس الدم ودفنتها فيه؟"

تراجعت إلى الخلف، مفاصلي ارتعشت فنظرات الشرطي القادم نحوي أرعبتني فتسارعت ضربات قلبي، تذكرت أمنيتي، بذلة الشرطي أعادت إلى ذاكرتي حلمي، أسندت ظهري على جدار البناء الذي كنت أقف أمامه وراحت تخزني الصورة:
- ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟
سؤال منح جو الصف الرتيب وجه الحركة الذي حرمت منه.
يومها رفعت إصبعي، المعلمة لم تنتبه أنني كنت أريد أن أقول شيئاً أو تجاهلتني خشية أن أربكها بشيء مما اعتادت عليه مني، لكن الموجه الذي كان يحضر الدرس قال:
- نعم ، يا رفيق أجب ؟
وقفت منتشياً بعد أن أصلحت من شكل صدارتي وقلت بصوت جهوري:
- أريد أن أكون قائداً في معركة !
ارتبكت المعلمة فقد صدق ظنها وضج التلاميذ بالضحك لكن الموجه ابتسم ثم قال:
- أحسنت، أنت ولد ذكي وطموح.


9-

كانت أمي في ثورة من الغضب هي أقرب إلى الجنون، لم تسألني عن الخبز، بل سألتني:
- ماذا جرى لك؟ أين كنت كل هذا الوقت؟
"الآن تقلقون عليّ، ياله من قلق جاء متأخرأ"

يضيق العالم من حولي، تلف القلب والروح غمامة من قتام، ألعن حظي وساعة مولدي، أظل حاقداً على أبي الذي مات من دون أن يدللني كما كان يدلل أختي، أحس بالدم يفور، ينبثق اسمي الأول، يريد أن يمسح الثاني، يباغته الاسم القاتل، تنفتح في ذاكرتي الأسماء كلها، أقف عند الاسم الدخيل، أشعر أن صهوة التمرد تخبو، يعلو الصفير، يزداد ارتفاعاً، يخرش أذني، أتجاهل صدى ندائه، أرى وجهي بالمرآة، أزم شفتي، أطبق على أسناني التي طلعت معوجة، أسمع صوت الطقطقة فيها، أضرب المرآة بالمشط، تنشرخ من الوسط ، تصرخ أمي لكأنها تولول:
- الله يقصف عمرك ويخلصني منك؟

أهز رأسي لكل وقت حسابه، لن أدعك تفلتين الحبل، ضقت ذرعاً بخروجك وأختي، سنرى!

10-

ابتعد أيها الضاحك، أريد قيلولة طويلة أوازن بها نفسي، لقد تعبت، هرب النوم من أجفاني وازداد أرقي أرقاً على أرق، في النهار مشاحنات ومطاردات لا تعرف حدود الحياء ولا الأدب، وفي الليل قزم هزيل يكره أن يغمض عينيه حتى لا يبول، اختصرت بعض الحلقات، فلقد اتخذت قراري.

11-

في أحد المقاهي جلست أدخن النرجيلة متخيلاً أن كل مآربي قد تحققت وأصبحت بحوزتي، راقني هذا التفكير فخرجت من المقهى، لم أشعر بطول الطريق ولا أحسست بالتعب، كانت يدي في جيبي تمسك شيئاً، وكنت وأنا أمشي أصفر، لمن أصفر لا أذكر، كل الذي أذكره أنني حين وصلت حارتنا أسرعت راكضاً، دخلت المنزل ويدي ما تزال في جيبي، أبعدت أخواتي، فتحت باب غرفة أمي، رأيتها متجهة نحو الجنوب وهي في حالة سجود، وقفت أتأملها والخشوع في داخلي يخزيني... !
31/3/ 1999 من مجموعة رجل في المزاد للكاتبة