4

عفة الصنم
إهداء إلى الأستاذ راضي الضميري

ومضى العابر في طريقه، وكانت البسمةُ قد غمرتْ وجهَه، فبدت عيناهُ - برغم ما لحق بهما من تعب وأحزان- نضّاحتان بالأملِ وبالألقِ وبالقوة.
وإذْ هبّتْ نسمات الليلِ مرهفة بأريج البراري تفتحت أساريرُه، فراحتْ أنفاسُه تتهادى على وقع دمعاتٍ خِفاف تستهل مناجاتَه؛ لكن البسمة لم تفارق محياه؛ فطفِق يحدث نفسه قائلا:
أيْ نفسي؛ ما كان يجدر بي أن أستعرض أمامَ الفتى ما انطوتْ عليه فكرتي ووجهتي؛ لأنه إن كان أدرك مما أقول شيئا فما أظن به استطاع أنْ يحوزَ إلا نصفَ الحقيقة؛ وبذلك لم أقدمْ له نفعا، ولشدَّ ما آلمني هذا.
إن أنصافَ الحقائق غالبا ما تنطوي على عِمايةٍ أشد مما ينطوي عليه الجهلُ ذاتُه، وأجدني- وا أسفاه - مضطرا إلى التسليم بأن الجهلَ يمسي فضيلةً إذا ما حلتْ أنصافُ الحقائق وقراً ثقيلا على مسامع الناس.
على أني أشعر بأسىً عميقٍ ولوعةٍ إذْ أذكرُ دعوةَ الفتى لي بأن أقصرَ فضائلي على نفسي؛ وأن يسعنى ما وسِع الناس! فلو أن صاعقة اجتاحتني حينها لكان أيسر عليّ من سماع ذلك، إذ لو أردتُ قصر فضائلي على نفسي لكان حرياً بي مِن قبلُ ألا أطمرَ أحلامي في غياهبَ ذكرياتي، بعدَ أن كادت تعيقني عن حمل رسالتي وأداء واجبي.
أوَ لستَ أنت مقبرةُ أحلامي أيها القلبُ الذي طالما أنهكته لواعج الفراق ودموعُ الألم؛ حتى ضقتَ من كثرة ما حوت جنباتُك من ألواحٍ شواهدَ كَتبتْ بماءِ الزمن أشعارَ معاناتي؟
هي ذي خطواتي - أيها القلب - تحاذر أن تقف عند بابك؛ كي لا تنقض أمواجُ ذكرياتي على أشرعة إرادتي فتتحطم على صخورها القاسية؛ فتتهاوى مضرجة بدماء أحلامي ولما أرسل بعدُ في المدى المعتّمِ شعاعَ أنواري، ولمّا انشّر في الأفاقِ أنغامَ أوتاري.
ها أنا ذا خمرٌ عجوز معتقٌ أقدم للشاربين نفسي.
قد بالأمسِ كنت بذرة ثم غصنا يميد؛ وهو ذا خمري يشفّ - من فرط صفائِه - عن عرائس الأمل. ألا ترونه يتقاطر معتقا من عناقيدي ؟؟
لكن خمري لا أقدمه للعاجزين؛ فما به من نشوةٍ لأرواح الخاملين.
هو قوة تطوف بأجنحة الروح
هو صوتٌ ناغِر في الضمير، وقلب مفعم بالمسرة وبالرهافة وبالحنين
هو ألحانٌ تسربُ من معزف الحقيقة وقد غنّت لتطرب أسماع المرهفين ... لتنشر في الآفاق أنشودة الانسان؛ تزف بشرى الآتي عبر السنين؟
أي نفسي؛ لكَمْ بي شوقٌ لأنْ أنشرَ أشرعة خيالي فأبحر في عباب ذكرياتي؛ حتى أصل شواطئ السحر ... هنالك حيث أقف على قبور أحلامي أرمي أليهن بأزاهيرَ من اللوتس بللتها العَبَرات. ولستُ أسكب عبراتي لهفة بل وفاءً؛ فلطالما صحبتني عبراتي يوما وصحبتها؛ حتى لو قيّض لصبايَ أن يرجع لراحت مقلتايَ تنثّ ذات الدموع أسىً على فراقي؛ فلكم تقدسُ الوفاءَ نفسي ولكم تمقتُ الجحود!
وعلى أية حال فليس عقلُ الفتى مَن نطق بتلك الكلماتِ؛ بل روحُه التي تجلدت في صقيع اللايقين. لكن كيف كان لي أن أحمِل الفتى على فهم كل كلامي! إذ متى كانت معضلةُ الحقيقة تكمن في القدرة على ألفهم والإدراك فحسب ؟
أوَ ليس من المعضلاتِ توضيحُ الواضحات !!
أما أمسى هذا العالمُ المفجّع يعجُّ بالمزيفين وبالمتلاعبين بالعقول؟
أما تفتقتْ أذهان هؤلاء وأولئك عن أدراك ودهاء؟ غير أنهم أهانوا الحقيقة بلي عنقِ المعرفة؛ حتى رفعت عقيرتها وهي تجأر - بعد أن لاكتها أنيابُهم الفولاذية - قائلة عن زيفهم:
هنا مبعث الحكمة وينبوع العلم !
إن روحَ الشر قد سطتْ على كمٍ هائل من المعرفة، لكن مِن المحال أن يتكشّف مخاضُها عن صالحٍ، وهيهات لبيضِها إلا أن ينشقَ على أرقم، عن عقارب زرق تنسل في حنايا النفوس.
ما المعرفة إلا بِنتُ الحقيقة، وهي ما برحت مختالة بعفتها ونقائها وجمالها اللهّاب، لكن أيّانَ ولج المزيفون فهنالك داهية لعوب؛ لذا فالمزيفون والدخلاء على الحق والسلام لا يطيقون سماع أي وتر يشدوا بأنغام الآتي عبر الآفاق، لأنها ما تنفك تعرّي ضعفهم، فإذا هم هياكلُ كلٌ ما فيها خوااااااااااااء.
وعلى هذا تجدهم متحفزين في كل حينٍ للانقضاض عليه، وقد ارتاعوا من أن ينتهوا إلى لاشيء؛ بعد أن شادوا لأنفسهم أصناما ووضعوا في أعناق الشعوبِ سلاسلَ من شبق ونارٍ وقالوا لها: اختاري … اختاري …
وأيّ شيء يختاره عبدٌّ يرسف في أغلاله ومن حوله سياط اللهب!
ما كان أريج الحب والخير لينساحَ ما لم يكن لغرْسه حارس وبستاني؛ وليس كالشجاعة والتجرد ما يصلح لهذا.
ما الحياة إلا شلال خيرٍ وحبور، ولكن أيّان حضر الروحُ المكفهر من الكسالى والأذلاء كدُرَ الماءُ واستحال إلى جدولٍ من يحموم.
يقول البسطاءُ والعُمْيُ من الناس: إن زمن الأصنام قد ولّى! لكنني ما سمعتُ بزمن كثرتْ فيه الأصنامُ كهذا الزمن الأخير، غير أنها أصنام لا أرى فيها عفةَ الصنم.
فيما مضى كانت الأصنام رمزا للاستحواذ على العواطف والعقول والارادات؛ هنالك حيث كان يعتمل سحر المجهول مع أبخرة الخرافة، مع وباء الطمع.
أما أصنام الزمن الاخير فهي - في أذهان الناس- مقدسة لذاتِها؛ حتى عندما قام العقلُ الذي شادها يكفّر عن جريرتِه معلنا زيفها وبطلانها.
إنها أصنام الشعارات والنظريات المعلبة، وأغلال العبودية التي غيرت لبوسها وارتدت ثياب التحرر والتقدم.
الحق ما جئتُ لأنال من حقيقة تلك التسميات، لكنْ من معلباتها التي أتت من سِفاح الغرور مع إماء العلم، لذا لم تشهدِ الحياة من زيفٍ وعمىً وويلات كالتي تشهدها الآن.
فلم كل هذا الكذب والزيف يغطي هامات القطيع؟
كنت أظن وأنا أخطو أولى خطواتي في مسارب الطريق أن مرآتي التي احمل - موجّها إياها صوب الجموع - تكفي المتفرسين فيا ليرون انعكاس سحناتهم وآلامهم وجبروتهم وانكسارهم وشبقهم وطيبتهم وسذاجتهم وذلهم على سطح مرآتي هذه.
لكن تبدّى لي لاحقا - أنني والحال هذا - محتاج إلى ملايين المرايا كي يرى كل بائس متهالك جبار نفسه فيها؛ حتى إذا ما سقطت عيناه على صورته أشاح بوجهه عنها؛ وفي أغواره تغلي مشاعر العنجهية والخوف والانانية والجزع، وسرعان ما سيحاول تحطيمها قائلا عنها: سحقا لها ... مرآة زائفة يحملها شيطان.
ما عادت الناس – إلا ما ندر - تطيق رؤية صورهم وهم ضمن جموع. صارت الرغبات والقناعات فردية، صار في نفس كل متهالك يرزح تحت نير عبوديته طاغوت متجبر يتشهى في كل لحظة أن يكون محور العالم؛ رغم أن أذني ما تنفك تنز دما .... تتمزق بفعل نشازِ شعاراتِ الحرية والديمقراطية وقبول الآخر.
تبدى لي أخيرا أن الديمقراطية المعلبة تلك هي أحط أطوار الإنسانية.
لقد وقفت بين الجموع اصيخ السمع؛ فسمعت بين صراخ الضفادع اللزجة صدىً مبهما مقهقها حقودا يقول: قل ما تريد لنفعل ما نريد. لقد اكتشفنا أخيرا نحن كهنة الشعارات والسياسة والمال لغة العبيد.
كانت السياط تلهب ظهور الخيل وهي تجر عربات مثقلات متهالكات، وكان الثلج وشظايا الصخور تدمي حوافرها. وعند الذروة وبينما أنفاس الجياد تختلط بالضباب وبحمحمات مِلؤها الألم والإجهاد كانت ذبابةٌ تقف عن انف أول الخيول وهي تتدفأ بأنفاسه الحارة يملؤها الغرور والشقوة قائلة: آه ما اشق تبعات القيادة.
كلما أصغيتُ إلى قيثارة الحياة وجدت صخبا يقطع أوتارها المرهفة، فأرى لوعة الأوتار وهي ترتد مرتجفة وقد تقطّعت، لكنني أسمع أخر أنّاتها قبل أن تصيرَ أشلاءا فأحس بدبيب الفاجعة يتسرب من ثقوب المعزف وقد غنى أغنية الموت.
أما ذاك الصخب فألفاظ كبيرة اخترعها أفاقوا السياسة لتتلهى بها الجموع، وأما معانيها فمن العمى أن يقال عن الغرابِ شحرورا؛ ومن السخف أن تـُسقى خلا ويُقال لك زلالا.
إن " الكذبَ والقوة هما فضيلتا الغالب " هذا ما يقولُه لسانُ الحال، وهو ما يسميه السادة العبيد: سياسة، فلا عجب أن لا أرى إلا أشلاءً ممزقة بالأمس كانت تُدعى شُعوبا.
ها قد مر ألفُ عام وألف والمزيفون الذين يرتشفون من دم الفضيلة ويتربعون على العروش يرددون: إن إرادة الشر قد صلّبتْ جسدَ المحبة والسلام على الأعواد! فقولوا لي: متى ينُزل هؤلاء المتباكون على العدالة والسلام ذلك الجسد - وهو ينز دما وآلاما - من فوق أعواده! أم سيظلون يتكسبون من نواح الحقيقة ومن فجائعها حتى تمر ألفا عام أُخَر!

هذا ما قاله العابر وهو ينوي الابحار الى جزيرة تدعى جزيرة البقرات الملونة