السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

3

قبل عشرٍ من السنين
بعد حينٍ من الجدبِ والأنين
كانت الريح طِوالَ ليلِها الحزين
تنثّ تراتيلها المُصفِّره
تعانق آلام الغابرين
قبل عشر من السنين
كانت الأرض حُبلى ولا جنين
وأرعدت السماء
وفتَّحت لغيثها المِدرار
باباً بعد بابٍ بعد باب
حينها أغمض العابرُ جفنيه؛ يلفه البرد والسهرُ
وما حملته من مغار قابيلَ الرياح
وأرعدتِ السماءُ
وفتَّحتْ لغيثها المِدرار
باباً بعد بابٍ بعد باب
حينها نام العابر
وقد نشّر الكرى من حوله جناح
وعند الصباح
كانت الشمس تمدُّ نحو هابيل
شعاعا تهادى على جنح اليقين
فانتفض قلب العابر
يصغي إلى الأصداء
وكان في البدء النداء
- هي ذي أنفاسي تتهادى في الآفاق؛ أنا الحقيقةُ وهذا قلبي الخفّاق يمزق جثة الصمت.
أما آنَ لكَ أنْ تصغيَ إلى أنفاسي تهدر صاخبةً؛ أيها الهاجع ....!
أعجِزتْ أذناك عن سماع وقعِها؟ إذن أنتَ لم تفهمْ بعدُ سِرّ الكلماتِ، لم تعِ علامَ انطوى أنينُ الناي ... لم تدْرك ماذا يقولُ اللهب؛ وأيَّ رسالة ينثّها أريجُ زهرةٍ على صفحات الوجود.
لم تسمع أنشودةَ البرقِ، لم ترَ ما ترسمُ أجنحةُ النحلِ على أثيرِ الهواء الذي تتنشقه الخلائق.
أوَ تدري أيَّ وقْرٍ ثقيل آليتَ على نفسِك أنْ تحمل! فلمَ تغمضُ جفنيك إذن ؟
أعرَفتَ من أيِّ عالم رهيفٍ تنطلق أنشودةُ الخير والسلامِ؟
أعلمتَ من أيِّ وِجْرٍ للذئاب تنقضّ مخالبُ الشر والكراهية؛ لتنشّرَ باسمي في آفاق العالم المفَجّع؛ تراتيلَها المزيفة ؟
انهض لتشهد الدماءَ تنزّ من عيني الحياة؛ وهي تتصدى لطعناتِ الشر الملونة.
دع رئتيكَ تتـنسّم عِطرَ هذا النجيعِ الذي منه يتـنشّق الخيرُ أنفاسَه؛ فلطالما كنتَ تهدرُ بالكلماتِ؛ وتتشكى آلام الصمم.
أوَ تحسبُ أن ما عزمتَ خوضَ غمارَه يصح أن يكونَ عنوانا للمستريحين؟ فإذا طابَ لجفونِك الإرخاءُ فلا تلهج باسمي؛ فعمّا قليلٍ ستنطفئ شعلتي من محياك.
لا تظنَ خوضَ الغمارِ وهجيعُ الليلِ يصطفيان
فإذا كنتَ تحسب أنشودتي تأتيك من غياهبِ الكرى فما عرفتني إذن، فلا تقل: جئتُ أنشد الحقيقة ... لا تقل أتيتُ أبحث عن إنسان، لأنَّ نفسَك بعدُ لم تجدْ.
اشحذْ نصالَك .... فوّقْ سهامَك بعد أن تعرف، لكنْ من أين لك أنْ تعرف؛ إذا لم تفهم سِرَ كلماتي ولم تتعال عن صراخ الألم.
تُرى هل أدركتَ أيَّ عبثٍ حلّ بين الرحمة والقسوة؟ أيَّ فُوْضى راحتْ تتحكم بمعاني الخيرِ والشر، أيَّ انحطاط أصاب معنى القوة ؟ فهل لك أن تقولَ: جئتُ أحمي الضعفاء ... أواسيهم؟ فمن هم الأقوياءُ إذن؟
لم يعد ثمةَ مجالٍ للكذب؛ فاصرخ في الآفاق:
ما جئتُ أحتقر منطق القوة؛ بل أتيتُ أحطم في الضعفاء ضعفَهم، فلا يشتق منطق القوة - على أيِّ صورة تشكلَ - إلا من الضعف ذاتِه، فالضعفاءُ - هم بالنيابة - صانعوا منطق القوةِ الأهوج.
أيها الهاجع ستجدني ماثلا في الأفاق نجما ساهرا، يبحث عمن يستنير.
لكنْ لا تحسب النجمَ يتجلّى للأجفان المسترخية؛ ينتظرها حتى تستفيق، فهو سوّاحٌ في لجّة السماء مجاذيفه قُدّتْ من شجرة الوجود يكللها تاجُ الجمال والخير
فهل لك أن تغتنمَ ساعتي قبل أن يتلاشى شعاعي عن صفحات وجودك ليتناثر مجردَ ذكرياتٍ ما لها من عَوْد.
تعال اصغِ إلى نغمات النايِ وهو ينشر في المدى أنفاسَه؛ ولا تحسبْها نغماتِ طروبٍ؛ فهي روحٌ لاهبة، فاستمعْ إليها بروحك؛ ولا تتعجل الطرب.
تعال اسمع طرفا من خبر اللسان.
ما اللسانُ إلا حديدٌ، وما الآذان إلا الحجر، فلا تَطرِقِ الحديدَ بالحجر ليتناثرَ الشرر، وهل تحتاج إلى عناءٍ لتدركَ أن الشررَ مفتاحُ ألسنةِ اللهب؟ إذن لا تتحدث بتفاهات. وردد من أعماقك:
أيها اللسان... أيها اللسان ... إنك فوّهةُ الجحيم.
لا تدعْ لسانَك ينطق بكل ما يسمع؛ حينها ستجد أن قليلا من الكلماتِ هي التي يجب أن تقالَ قُبالةَ الكثيرِ من الأفعال. فلا تجعل عقلك عبدا ذليلا لتصوراته؛ يظن انه قد أوتيَ حكمةَ الشمس.
تعلّم كيف تنزل الأفكار منازلها، فلا تجعل المحتملَ حتما تفرِضه على الناس كهنوتا مقدسا، واترك للعقول أن تختار؛ وللأرواح أن تتأمل.
انه ليس من وضاعة تعدِل وضاعةَ مَن يظن أنْ ليس للأفكار مِن قداسة وحرمة.
إنك في الوقت الذي تظن هذا تنحرُ براءتك.
وهل من عار أحط من عار أولئك الذين يجعلون الكلماتِ مطية يجتازون بها مفاوز المسؤولية هربا من الواجب؛ أو يتخذون منها شاهدَ زورٍ أو وسيلة تدليسٍ؛ ليمرّروا بها مواقف الأنانية والطمع في آرائهم وأمانيهم.
لا تحوّل اللغةَ إلى بغيّةٍ لعوب لتجعلِ المعاني ماخورا للأهواء، فتحول الكتابة إلى سلعة تتكسب بها؛ ثم توهم نفسك انك عن الحقيقة تدافع؛ وبالمعرفة تنطق، وهذا لن يدعك حتى تتحول إلى مهرج أفّاق لا يرى إلا نفسَه وهو - على الحقيقة - لا يرى إلا ظلالا شاحبة.
ليس في قاموسي معنى للاحتقار على أني لا أطيق رؤية مَن يدلسون على المعرفة.
لا أطيق رؤيةَ من يأكل لحم أخيه الإنسان باسم التقوى، أو مَن يحطمَ معنى الإنسانية باسم الحريات والحداثة، لذا - وقد ضقتُ ذرعا بكل هؤلاء وأولئك – رحتُ أقذف بلاهِِبات كلماتي.
هوَ ذا صوتُ الفطرةِ يتهادى؛ ليبارك خطواتي مع أني لمّا أزلْ اسمع نحيبا يتسرب من ثقوب معزفي وقد غنّى.
إياك أن تتعاطى اللغة كما يتعاطاها مهرجو الأدب والفن فتتحولَ كما تحولوا إلى عَلقاتٍ التصقتْ بضرع الكلمة؛ حتى راح الصديدُ ينزّ منها مختلطا بلبنها الدافئ.
أوَ رأيتَ كيف حوّل أفاقوا الأدبِ والفنِ الجمالَ إلى عفنٍ تئن منه الفطرةُ وقد كمّوا فمها بعنجهيتهم ؟ أرأيت كل هذا ؟ إنْ كنتَ قد رأيته فهل تطيق السكوت؟
ها أنت تشهد الفلسفة وهي تودع – نحو مثواه – أخر عتاتها.
وها أنت تشهد صبيان المعرفة قد تناوشوا أثوابه التي كان بها مسجّى. فراح ارث الفلاسفة تتخطفه سماجة كل منحل معاق تتفجر نفسه شبقا وعنجهية؛ فحتى مواخير الليل بات لها فلاسفة وفلسفات.
إن الظلامَ لدامسٌ، والطريقُ ملؤها العِثار، وفي كل زاوية عقاربُ وحياتٌ، كما في كل حزوْنةٍ حمامةٌ تحتضن بيضها في حنوٍّ وجلال.
فلا تلقِ بشررِك؛ فالحقولُ من حولِك قد غشيَها العُشب اليابس؟ فهل تريد أن تنيرَ أم أن تشعلَ الحرائق في الأدغال ؟
هل تفكرْ بان تجعلَ كلماتَك سهاما طائشة لا تبالي إذا نالت من الحقيقة مقتلا، أو لوّثت مشاعرَ غافية، أو أهانتْ عقولا بغير حق؟
أمّا إذا فوّقتَ - والحقيقةُ بمأمن من سهامك - ففوّق بقوة وشدَّ القوسَ إلى أقصاه؛ ولا تسمحْ لخيط رهيفٍ من مشاعرك أن يهتزَّ أو يرتجف، لأنك لستَ لنفسك ترمي بل للحقيقة، وإنك بالروح تنطق لا بالكلمات.
وأنتِ أيتها الآذانُ ستجدين في كل منعطفٍ طبلا ومزمارا ... ستجدين ألوانا من المزامير لا تحصى، فلا تتسمعي إلى ما يلقى على قارعة كل الطريق؛ فتكوني قِمعا يستوعب كلَ تافهٍ من المعاني، وكلَ نشازٍ من الألحان.
كم من كلمةٍ أحرقتْ عالما بأسره، وكم من حروف أزهقتْ أرواحا وحطمت آمالا فتية! فلا تحسبْ أن ما تلقيه على العُشبِ اليابس لن يخلُفَ وراءَك حَطْما ودمارا.
ولعلك ستسأل في لحظاتِ ضعفٍ أو قوة: لمَ كلُ هذا الحديث عن الكلمات؟ إذن سألقي إليك بمفاتيحَ ثِقال: فإياك أن تخطئ الصحيح منها؛ فما ستفتحه بها لا يقبل التجريب؛ فإنْ أخطأتَها فستحارب سيوفُك طواحينَ الهواء.
ما عادَ ينفع أن تقولَ أمام الجموع: لا تثرثرْ؛ لا تكذبْ؛ لا تنفثْ من فمك شررا يحرق العالم؛ أو عفناً يلوث أريجَ الحياة.
قد صار عليك أن تقولَ أيضا: لا تستمع إلى سخافات، فليس اللسانُ وحدُه صانعَ الجريمة. فإذا كانت كثير من الألسنةِ طاغيةَ العصورِ فالأذنُ جلادُها المتوحش؛ فلا تعذُر نفسك إنْ وقعتَ فريسة للطاغية، وانظر إلى شريكِه الذي تحمِل .... أنظر إلى أذُنيك.
ها قد أزفت ساعتي، فلمَ تنام ... ! وهل تهجع الشمسُ وقتَ الهجير ؟
أوَ ما تصغي لمناقير فراخِك تمزّق بسقسقاتها جثةَ الصمتِ؛ وهي تمد أعناقَها.... تعتصر رئتيها؛ تنتظرك ترجع إليها محملا بهداياك؟
أوَ تعرفُ النِيرَ يضعه الزارعُ في عنق الثور يشدَّ إليه المحراث؟
ضعِ النيرَ في عنق الزمن؛ ولتكنْ كلماتُك المِحراث
ستجد أرضا بورا مزقتها يدُ الجفاف، ستجد قلوبا ذاوية قد يبُستْ وانكمشتْ نضارتُها. ستجد عقولا تكاثف فيها الوهمُ والوهنُ والخوف.
ستلقى نفوسا ككتل الطين الجاف تمضغه الإراداتُ المنحطة، فهل أنصتَ لصريف أسنانِها وهي تقضم الطين اليابس؟
هي ذي نفوسٌ تجأر وقد ملأها الحقدُ والإذلال وجف عنها ضرع الحب، فإذا عزّ عليك أن تستشعرَ آلامها ونشيجها فإليك عني فلستَ أنت غايتي.
ها قد حان وقتُك؛ فلمَ تنام .... ! فهل تهجع الشمس وقتَ الهجير ؟
ستشبُ في الأفاقِ الحرائقُ؛ سيوقدهن أجيج الكلماتِ الزائفة والألوان؛ فتتقصف ذرى السعف؛ يشعلهن موجُ الشر وهو يقتحم.
حينها ستجد أنّ بالكلمات تحيا نفوس وبها تموت؛ لذا عليك أن تصمدَ وأنت تحمل مفاتحيك لتصل إلى الأغوار؛ فربما ستكون كلمةً تنطق بالحقيقة يتقحّم مضمارها ألفُ كلمةٍ وكلمة من الكذب.‏
هنالك سترى حروفا تتفجر بأشد معاني الإنسانية وقوة الخطاب؛ لكنها أصنام بلا الروح.
سترى أفواها كانت تتشدق باسمي قد خيطت بخيوط من جبن وعار. ستجد عقولا تتعاطى الفكرَ منذ طلوع الشمس وحتى أفول القمر؛ لكنك لن تفهم مما تقول شيئا؛ لأنها بلا معنى؛ وقد صيغت لعقول بلا ذات؛ ولنفوس بلا شخصية.
بالكلمات ستحارب؛ فالحرب ستكون جزءا من وجودك لأنها ستنتشر انتشار النارِ في الهشيم؛ فبعد أن تحترق مدن النخيل ستتهاوى عروش طالما تربعتْ على سدتها أصنام؛ منها أربعة أصنام ملكية.
ها أنتَ ذا جئتَ تنفث شررا، لكنْ لا لتحرقَ بل لتنير، فهل أدركتَ لمَ توقَدُ النيران؟
وهل لنارِك من يصطلي؛ وهل لسراجِك من يستَنِير؟ إذن عليك أن تعرف طبيعة النار، فإذا عرفت لمَ وكيف توقَدُ النيران؛ وجب أن تتعلم متى تلوّح بسراجِك في الآفاق.
ها أنا ذا القي إليك بأثقل المفاتيح لأشد الأقفال استعصاء. أطبق فمك إذن على آخر كلماتي:
قد أوصيتك من قبلُ كيف تخمد النيران كي لا تشعل الحرائق في الأدغال.
أما الآن فأقول لك: ستحتاج إلى أن توقدها؛ في وقتٍ لا يجدي فيه سوى السنةُ اللهب؛ اللهب الذي به ستحرق ظلموت الطين.
ها قد حان وقتُك؛ فلمَ تنام ... ! وهل تهجع الشمس وقتَ الهجير ؟
انهض لتُبعِدَ عن الطريق كلَ الرجالِ الجوف. لتهيئ أرضَك للآتي عبر الآفاق.
انثر بذارك قبل هبوب الإعصار. قبل أن يقطّع طريقَك نحو الآفاقِ مقصٌ هذا الهائجِ الهدّار.
الآن قد حان أن تعصفَ الريحُ؛ فعلى المعاول أن تنطلق.
لكنْ ليس المعاول تحديدا هي ما ابغي، إذ لا يحق لأحد أن يحمل معولا إلا من كان جديرا بان يكون بناءا.... جديرا بأن يكون روحا وقّادة ترفّ على صفحاتِ الوجود.
لقد أدمى قلبي ومزق أذني هذا النشاز الذي ينطلق من فم الروح الثقيل؛ وهو يتشدق باسمي.
قم أيها الهاجع؛ فقد أزفتْ ساعتي ....
هكذا .... من قلب الصحراء .... كان مستهل العابر
فراح يشد النيرَ إلى عنق الزمن