السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بعد خمس سنوات من الكتابة امتلكت ما يكفي من الشجاعة لأكون بين حضراتكم هنا لأتعلم..

بعد حيرةفي اختيار البداية مع حضراتكم..أبدا اليوم بقصة قصيرة..أرجو ان أسمع نقدكم الجميل..



علبة كانز

ضاق صدره بهم جميعا ولم يطق مكوثا فخرج لا يلوي على شئ ، جلس على مقعد خشبي كبير خال يتوسط حديقة من الحشائش الخضراء قليلة الورود ، قرر الهروب من همه فاستفتح بسورة يوسف ، تحت قدمه ترقد علبة "كانز" بيبسى سوداء فارغة ، أطربه صوت ارتطامها بحذائه فقام يركلها أمامه على الرصيف الضيق الذي يخنق الحدائق الممتدة بطول الشارع الرئيس في المدينة، يقطعه بين الحين والآخر عامود كهرباء يحمل مصباحا خافتا.لسانه يتلو من سورة يوسف ، يداه تقبعان في الجيبين الخلفيين لبنطلونه الجينز الضيق ، عيناه لا ترتفعان ترقبان قدميه تتأرجحان في الهواء بالتبادل لتتولى كل منها مرة لطم العلبة الفارغة.
رائحة زكية تنبعث من خلف صندوق القمامة على الجانب الآخر ، حبس علبة الكانز تحت كعب حذائه ونظر إلى طفلة يتألق وجهها في ضوء نار تشوي عليها كيزان الذرة تلتف حولها ثلة من الحسناوات ينتظرن دورهن ويتسلين بغنائها العذب وضحكاتها المتواصلة.
هز رأسه ثم أعاد بصره إلى موضع علبة الكنز وبدأ يركلها من جديد تارة بمقدمة حذاءه وأخرى بباطن قدمه ، لا يبالي بضحكات المارة الساخرة ولا بذلك البدين الذي يسبه لصوت العلبة المزعج ، شعر أن الطريق قد انسد فجأة أمامه فشخص ببصره فإذا بتمثال فرعوني لملك عملاق يحمل صولجانا وإلى جواره يقف حبيبان يحفران اسميهما على ساقه الحجرية بسكين صغير.رمقه محتقرا ثم أشاح بوجهه نحو العلبة يركلها ثانية.
انتهى الرصيف الأول فركلها بقوة لتعبر إلى الرصيف المقابل ، خرج بعض رذاذ بواقي البيبسى ليلوث مقدمة حذائه ، في حنق ركلها فسقطت من الرصيف الضيق إلى منتصف الطريق ، أسرع يعيدها لا يعبأ بسيل السباب من سائق النقل العملاقة وهو يضغط فرامله فتصرخ غاضبة .الركلة أسقطتها وسط الحشائش خلف دائرة من الزهرات اليانعات تمرحن حول صديقة قد عصبت عينيها بمنديل ملون تحاول لمس إحداهن عابثة وهي تفشل كل مرة في سرور بالغ.
عاد يركل العلبة ، هذه المرة لا بد أن تكون برفق ، بل اضطر لحملها فوق مقدمة حذائه من بين الحشائش إلى الرصيف المرتفع ، تعود لتسقط منه في منتصف الطريق ، ينظر إليها مطلقا زفرة قوية بعد تنهيدة عميقة ، يتمنى لو أن سيارة دهستها فمحتها من الوجود أو أن حذاءه قد تلف فعجز عن ركلها ، وصل في تلاوته الآن من سورة يوسف : " ...ولا تيأسوا من روح الله.." . برهة توقف ثم ترجل إليها وسط الطريق...
لماذا لا يسير هنا بينهم؟! أفرض عليه أن يمشي على الرصيف الضيق ؟!!...مضى يركلها وسط السيارات المسرعة تطربه آلات التنبيه المتنوعة التي خالها تحتفل به في ممشاه الجديد ، يشاركهم أفراحهم بعزف رتيب لأوركسترا حذائه وعلبته والإسفلت...
مازال يمضي في طريقه الطويل ينقذ علبته من تحت عجلات السيارات حتى أوشك صدره أن يضيق ، لقد وصل في تلاوته إلى سورة طه.."قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري...". رن هاتفه المحمول يحمل صوتا محبب إلى قلبه ، إنها ترجوه أن يعود فقد انقشعت الغمامة ، ملأ صدره بهواء نقي وحمل علبة الكانز برفق بين أنامله وقد تضعضعت جوانبها ، تركها تتوسد الحشائش في ظلال شجرة وارفة وانطلق بخطى واسعة نحو المنزل.استقبلته أمام الباب تزيل آثار ما علق بطرف قدمه من رذاذ البيبسى وتربت على كتفه في حنو ، خرج صوته من داخله متابعا تلاوته من سورة طه.." ولقد مننا عليك مرة أخرى..." .نظرت إليه باسمة.."صدق الله العظيم".



د.إبراهيم الحسيني محمد احمد
27 – 5 - 2008