رأي الدكتور عمر خلوف:
كتب الدكتور د.عمر خلوف على صفحته مقالاً:
طلبت إليّ الشاعرة/ رنا صالح إبداء رأيي -المتواضع- في وزنِ (بحر جديد)، قالت إنها استنبطته بالتوليفِ بين شطر (البحر المضارع)، ومعكوسِهِ، هكذا:
مفاعيلُ فاعلاتن = فاعلاتن مفاعيلن
وأطلقت عليه اسماً مشتقاً من اسمها: (بحر الرّنا)، واستخرجَت له: (وثيقةَ إيداعٍ) من: (مديرية حمايةِ حقوق المؤلّف، بوزارة الثقافة السورية!).
وقد جعَلَتْ لهُ ثلاثةَ ضروبٍ:
الأوّل: سالم (مفاعيلن).
والثاني: مقبوض (مفاعلن).
والثالث: محذوف (فعولن).
ثمّ صاغَتْ لكلِّ ضربٍ منها قصيدةً تُمثّله.
وقد تضاربَتْ آراءُ المتابعين بين مؤيّدٍ ومُعارض، وقابلٍ ورافض، وساخرٍ وحائر، وصامتٍ ومجاهر.
***
وبعد تأمّل ما نظمته الشاعرة على هذه الأوزان، أقول وبالله التوفيق:
* لم يكن للشاعرةِ في عملها أكثر من المزاوجة والتأليف بين أوزانٍ معلومة، مستخدمةٍ في الشعر. حيث جمعت في ضروبها بين ثلاثةِ أوزانٍ معلومة، ركِبَها الشعراء قبلها، وكتبوا عليها:
هي: (مجزوء الخفيف: فاعلاتن مَفاعِلن)، فَـ(مُقَصّر المتدارَك: فاعلن فاعلِيّاتن)، فَـ(مُقصّر المتدارك: فاعلن فاعلاتن) أيضاً، ناهيك عن (وزن المضارع: مفاعيلُ فاعلاتن).
-فالضربُ الأول: (فاعلاتن مفاعيلن)، يُساوي عندنا: (فاعِلن فاعِلن فعْلن)، أو: (فاعلن فاعليّاتن)، وهو من مُقصَّرات (البحر المتدارَك)، ولا علاقة له بالبحر (المُطَّرد)، وهو بحرٌ مُهمَلٌ أصلاً.
وقد كتبت عليه نازك الملائكة، ضمنَ قصائد لها على وزن المتدارَك، كقولها:
وأهَبْنا برَكْبِ العُصورْ=أنْ يَعودَ على بَدْءِ
عَلَّنا نستعيدُ الشعورْ = فرَجَعْنا بِلا شَيْءِ
فاعلن فاعلن فاعلانْ = فاعلن فاعلن فعْلن
-ومثله الضرب الثالث: (فاعلاتن فعولن)، الذي يُساوي عندنا: (فاعلن فاعلن فا)، أو: (فاعلن فاعلاتن)، وهو من (مقصَّرات المتدارَك) أيضاً، وهو ضربٌ قديم، كتبَ عليه أبو العتاهية:
عُتْبَ، ما لِلخيالِ=خَبِّريني، ومالي؟
لا أراهُ أتاني = زائراً مذْ لَيالِ
وعليه قول عليّة بنت المهدي:
ليتَ سلمَى تراني=أو تُنَبّا بِشاني
وقول ابن المعتز:
طالَ وجدي وداما=وفَنِيتُ غَراما
وغير ذلك كثير.
-أما الضرْبُ الثاني: (فاعلاتن مفاعلن)، فهو (مجزوء الخفيف) بعينه، وهو أشهر من أن نُمثِّلَ له.
***
ولا يمتنعُ عندنا مثلُ هذا التوليف بين الأوزان المتقاربة، أو المتآخية، فذلك ما فعله كبار شعراء الموشحات الأندلسية، من أجل التنويع الغنائي. وكثيراً ما أقدَمَ الوشّاحونَ على مثل هذا المزجِ، بينَ أوزانٍ خليليةٍ معلومة، أو مُشَقَّقةٍ من أوزانٍ معلومة، دونَ أن يَدَّعي أحدهم اختراعَ بحرٍ جديد، لأنّ فعلهم هذا لا يَعدو المزاوجةَ بين بعض الأوزان المعلومة.
ومن طريفِ ما يُناسِبُ المقال،ونُمثِّلُ بهِ هنا، موشحة لابن الخبّاز، مزَجَ فيها بينَ الضرب: (فاعلن فاعلاتن) من المتدارَك، والذي يساوي عند الشاعرة: (فاعلاتن فعولن)، وبين وزن المجتث: (مستفعلن فاعلاتن)، بطريقة لطيفة للغاية:
مائسُ المعطفينِ=ألانَ قلبي بلِينِهْ
فاتِرُ المقلتَيْنِ=والموتُ مِلْءُ جفونِهْ
سافِرُ الوجنَتَيْنِ= عنْ ورْدِ غيرِ مَصونِهْ
فاعلن فاعلاتن= مفاعلن فاعلاتن
فكأنه معكوس الضرب الثالث عندها، والذي جاء مطلعه هكذا:
سَرَى رَكْبُهمْ بِفُلْكي=وانْضَوَى تحتَ مُلْكي
مفاعلن فاعلاتن=فاعلن فاعلاتن
ومثل عمَلِها هو ما فعلَه أحمد مطر، عندما مزجَ بينَ (المجتث ومجزوء الخفيف):
مستفعلن فاعلاتن=فاعلاتن مستفعلن
ومن اليسير علينا أن نعكسَ ما فعله مطر فنقول:
فاعلاتن مستفعلن= مستفعلن فاعلاتن
وأن نزيد عليه الضرب: (فاعلانْ)، والضرب: (فاعلن) مثلاً.
كما يمكننا أن نمزجَ بين المقتضَبِ ومعكوسه:
مفعولاتُ مفتعلن=مستفعلن مفعولن
ونزيد عليه الضرب: (مفعولانْ) أيضاً.
***
إنّ اختراعَ الأوزان الجديدة ليس بالأمر اليسير، لأنّ معظم أوزان الشعر إنما هي فطرةٌ فطر الله عليها نفسَ الإنسان، شاعراً ومتلقّياً.
لذلك ما كان للشاعرة أن تتعجّلَ في الحكم على هذا الوزن بأنه بحرٌ جديد، وهو لم يَسْتَوِ على سوقه بعد.
ملاحظات هامشية:
1-لا يَخفَى أنّ (البحر المضارع) هو أضعفُ بحور الشعر العربي، وأنّ (مفاعيلُ) فيه لا يكاد يُصيبها الزحاف، وإن أجازوا فيها (مَفاعلن)، حيثُ ينتقلُ الوزنُ بها إلى وزن (المجتَثّ).
وقد ركبَت الشاعرةُ هذا الزحاف مرّات عديدة، خاصّة في قصيدتها الثانية، حيثُ ورَدَتْ (مفاعِلن) عشرَ مرّاتٍ في أربعة عشر بيتاً، مشابهة بذلك ممزوجَ أحمد مطر (مجتث/م الخفيف):
سَلَبْتَ مِنْـ/ـني فؤادي=ردّهُ يا حبيبُ رُدّْ
مفاعلن فاعلاتن = فاعلاتن مفاعلن
2-ونشير إلى قول الشاعرة:
وما حاجتي لدفءِ الـ/ـحبِّ ما دامَ فيك بَرْدْ
حيثُ جاءت القافية منتهيةً بساكنين متواليين: (مفاعيلاْنْ)، مخالفَةً بذلك بقية الأبيات.
هذا والله تعالى أعلم
د.عمر خَلوف