كثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره ، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى : ( أمّ تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً ) [ الفرقان : 44 ]
قال أبو جعفر الباقر : والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام ، حتى جعلهم أضل سبيلاً منها ،
فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياماً تهرب به من الذر والنمل ، لأنها تضعه كقطعة من لحم ، فهي تخاف عليه الذر والنمل ، فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد .

وقال ابن الأعرابي : قيل لشيخ من قريش : مَنّ علمك هذا كله ، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب ؟

قال : علمني الله ما علم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعاً نصيبهما من حضانتها ، ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد .

وقيل لآخر : مَنْ علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها ؟

قال : مِنْ علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ، ثم تصعد ، ثم تسقط مراراً عديدة ، حتى تستمر صاعدة .

وقيل لآخر : مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به ؟
قال : من علم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها ، لا تسأم ذلك ، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض .

وقيل لآخر : مَنْ علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك ، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته ؟
فقال : الذي علم السِّنَّورة أن ترصد جحر الفأرة ، فلا تتحرك ولا تتلوى ، ولا تختلج كأنها ميتة ، حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد .

وقيل لآخر : مَنْ علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون ؟
قال : من علم ابا أيوب صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة ، والمشي والتعب وغلظة الجمّال وضربه ، فالثقل والكل على ظهره ، ومرارة الجوع والعطش في كبده ، وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ولا يعدل به ذلك عن الصبر .

وقيل لآخر : مَنْ علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل ؟
قال : من علم الديك يصادف الحبة في الأرض ، وهو يحتاج إليها فلا يأكلها ؛ بل يستدعي الدجاج ويطلبهن طلباً حثيثاً ، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها ، وهو مسرور بذلك طيب النفس به ، وإذا وضع له الحب الكثير فرّقه هنا و هنا ، وإن لم يكن هناك دجاج ، لأن طبعه قد ألف البذل والجود ، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام .
وقيل لآخر : مَنْ علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله ؟
قال : من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها ، وهي أكثر من أن تذكر .

ومَنْ علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب ، عفى أثر مشيته بِذَنَبِه ،
ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ في منخريه ، لأن اللبوة تضعه جرواً كالميت ، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك ! .
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها ، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ، لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة ، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان ، وهي عالية ، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق ، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم .

ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر !

ومَنْ علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره ، والذكر من الأنثى ، فيقصد الذكر مع علمه بأنّ عدوه أشد وأبعد وثبة ، ويدع الأنثى على نقصان عدوها ؛ لأنّه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطاً أو شوطين حقن ببوله ، وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو ، فيقل عدوه ، فيدركه الكلب ، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج ، فيدوم عدوها !.

ومَنْ علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف ، فيعلم أن تحته جحر الأرانب ، فينبشه ، ويصطادها علماً منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق !

ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوباً بين عينيه ، فينام بإحداهما ، حتى إذا نعست الأخرى نام بها ، وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب :
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ××× بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

ومَنْ علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء ، فيطيرون حول الفرخ ، ويحركونه بأفعالهم ، ويحدثون له قوة وهمة وحركة ، حتى يطير معهم !
قال بعض الصيادين : ربما رأيت العصفور على الحائط ، فأومي بيدي كأني أرميه فلا يطير ، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئاً فلا يتحرك ، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي .
علم (( اللبب )) وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ، ويجمع نفسه ، فيرى الذبابة أنه لاه عنها ، ثم يثب عليها وثوب الفهد !

ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة ، وتجعل في أعلاها خيطاً ثم تتعلق به ، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها !

ومن علم الظبي أن لا يدخل كناسه إلا مستدبراً ، ليستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه !

ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود ، ثم يشير إليها بالرجوع ، وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط !

ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ، ويعمقه ثم يتخذ يف زواياه أبواباً عديدة ، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزاً رقيقاً ، فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء ، وخرج منه ، ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت ، إذا ضل عنه!

ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ، ثم يظهر !

ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى ، لأنّ سلاحه قد ذهب ، فيسمن لذلك ، فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح ، وأكثر من الحركة ليشتد لحمه ، ويزول السمن المانع له من العدو .

وهذا باب واسع جداً ، ويكفي فيه قوله – سبحانه –
( وما من دابَّةٍ في الأرض ولا طائِرٍ يطير بجناحيه إلاَّ أمم أمثالكم مَّا فرَّطنا في الكتاب من شيء ثمَّ إلى ربهم يحشرون – والَّذين كذَّبوا بِآيَاتِنَا صمٌّ وبكمٌ في الظُّلمات من يَشَإِ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ ) [ الأنعام : 38-39 ]