صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16

الموضوع: وردة ماتت

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 50
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي وردة ماتت

    " وردة " ماتت
    قصة قصيرة من تأليف : محمد الحامدي
    سحب الكرسي مسافة نصف متر أو ما يزيد حتّى يتسنى لكرشه المترهل أن يثوي أمامه ، وجلس ... طفق يتمعن سطح الطاولة التي كانت خضراء قبل أن تصبح بلا لون ... أو على كلّ لون ... وكأنّه يكتشفها لأوّل مرّة : خطوط ورسوم وآثار حروق السجائر ، وحسابات " الدومنة " ، وبقايا من كل شيء : طعام وشاي وقهوة .. غرق في ذلك التأمل الأبله وكأنه غاب عن الوعي .. لم يوقظه من بلاهته سوى خرطوم " النارجيلة " يمتد إليه حتى لامس أرنبة أنفه الأحمر ، متآكل الأطراف ... مسك به كمن ظفر بكنز ... وألقمه فمه المقفر إلا من قاطعتين عاجزتين عن قطع الماء والهواء .. وكأنه طفل يستلم ثدي أمه . حملق في النادل المبتسم بعينين أحمرهما أكثر من بياضهما وسوادهما ، وسحب سحبة غرق بعدها في سعال أيقظ أحياء الحي وأمواته .. وصاح أحدهم : " اسحب موصّل الكهرباء وسيسكت .. " وصاح ثان : " لا لا بل السلف معطب فقط .. سيشتغل " وتعالت أصوات قهقهة ماجنة عابثة يصاحبها ضرب عنيف على الأفخاذ والركب ، وقرقعة الكراسي والطاولات .. ولم يعر جوابا سوى أنّه حك جانب بطنه بخرطوم " النارجيلة " في يسراه ،، ومسك بيمناه مسند الكرسي وطفق يسحب فيسعل فيسحب ...
    - ورد يا ورد
    انتبه لصوتها ، فانتفضت كلّ خلاياه .. حتى كاد يسقط من فوق الكرسي وقد غطاه جميعا فبدا وكأنه مقرفص في الهواء ...
    واقترب النداء " ورد يا ورد " ، فتهللت أساريره ، ورفّ شارباه المبيضان تماما ‘ إلا من خضال " النارجيلة " ودهن الطعام عند أطراف شعيراتهما .
    واقتربت " وردة " تمد له سلة ورد يانع .
    " إنها طفلة ، طفلة . بكل ما في الطفولة من سكر وعسل ، جميلة جمال الصباح في الحقول المقمرة ، جميلة جدا إلى حد الرهبة .. شعرها ... يا لشعرها .. انظر إلى ذلك الشلال الثائر ضد كل نظام ...وأظفارها سوداء طويلة .. لكنها جميلة جدا جمال مخالب هرة يانعة .. ثوبها بلا لون ... لكنها إحدى تحف هذه المدينة .. أسنانها صفراء لم تنظف مذ ولدت ولكن ابتسامها من ضياء الشمس .. قدماها حافيتان .. لكنها فاتنة .. بل مرعبة .. روعة كما تكون الطفلة في مثل سنها .. حلوة لذيذة ... شهية كما الورد الذي تبيعه "
    التقط السلة منها وهي تميل برأسها يمنة ويسرة كجرو صغير يتابع توارد اللقيمات على فم سيده ، وأخرج كلّ ما في جيبه ومنحها إياه .
    أخذت الدريهمات دون عجب أو شكر ، وركضت ، فناداها بحنان كما ينادي أب ابنته : " وردة " خذي السلة .. سلة الورد .. هي لك ..
    - ولكن ...
    - خذي حبيبتي ، الرجال في مثل شكلي وسني لا يحتاجون الورد .
    وضحك كل من كان حوله كما العادة ليتكرر مشهد العبث والمجون من جديد . ولكن وردة ، وقد تعودت على تلك المشاهد ، اكتفت بأن مدت يدها الحميراء إلى السلة ، وغادرت تنادي : " ورد يا ورد " .
    وقفت عند حافة رصيف المقهى ، والشارع الكبير أمامه مكتظ بكل شيء : مارة وسيارات وعربات وحيوانات وعراك وسب وشتم وضحك وصخب ..
    فجأة ، وقفت سيارة في منتصف العمر ، فخمة لكن فخامتها معتقة قديمة ،، كاد حديدها يلامس بلاط الشارع رغم عظم عجلاتها .. " دبابة " كما علق أحد زبائن المقهى .. فتح السائق النافذة بيد مرتعشة ونادى " وردة " .. أخذ منها وردة حمراء وضعها خلف أذنه ومدّ لها ورقة نقدية خضراء .. نظرت فيها " وردة " نظرة الخائف منها ومن الرجل ... لم تفرح بها رغم أنها أحست بقيمتها .. وأرادت أن تستدير إلى " صاحب الكرش " في المقهى ،، ولم تكد تفعل حتى ارتجت الدنيا ، واسودّ كلّ شيء .. وانقلبت الأرض كما تقلب إناء به أشياء مختلفة في الهواء .. كل شيء طار .. وكل شيء تحطم .. رؤوس الناس كما سلة الورد .. وإذا صراخ وعويل وركض في كل اتجاه .. هرب من الهرب ولجوء إلى العراء ...
    جثا صاحبنا " صاحب الكرش " على ركبتيه وسيارة الإسعاف توقع الصراخ والعويل .. جثا مكان ما انفجرت " وردة " حتى لم يبق منها ما يدل على انفجارها ... كان يبكي بصمت رهيب .. فقط شارباه يرفان كما طير عجز على أن يجتث جسمه من الأرض ..
    - ماله ؟ ! ماذا دهاه ؟! كم كان يحبها ؟!!
    - يقال إنه يقسم أنها ابنته .. تعرفون أمها ...
    - أستغفر الله .. وهل هذا وقته ؟
    وقرفص أحدهم بقربه يحاول أن يوقفه .. فنظر إليه وبيده بقايا إحدى ورود " وردة " قائلا : " أتموت وردة ؟ "
    - كلنا نموت ..
    وسكت كل شيء فيه .. وعجزوا عن رفعه إلا بعد عناء .

    كتبها : محمد بن الطيب الحامدي
    ما كنتُ أدري بأنّ الشِّعر يغرقـــني = من قمّة الرّأس حتّى أخمص القـدم

  2. #2
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أخي الكريم محمد الحامدي
    قصتك مرآة تعكس واقعنا المهترئ بكل تناقضاته حيث المقهى و النراجيل تكركر على وقع الإنفجارات التي تخطت في القصة حدود المكان و الزمان حيث تموت الورود تماما كما تموت القيم و المبادئ و الثوابت القومية و الوطنية و الناموس و الشرف و العزة و الكرامة و خلينا ساكتين أحسن .
    صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم ... كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل .
    سرد ماتع يضع القارئ مباشرة في عمق الحدث ممسكا بتلابيبه حتى الحرف الأخير مجرّعا إياه الأفكار على طبق من التشويق و الإثارة .
    دمت مبدعا

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 50
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    شكرا على هذا العمق في الفهم الذي زاد نصي ثراء ..
    بس لا تسكت ... قل ... فالقول قد يجدي أحيانا ... ودعنا نقول ففي القول بعض العزاء
    دمت بألف خير

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد سامي البوهي
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+ الكويت
    العمر : 48
    المشاركات : 1,087
    المواضيع : 110
    الردود : 1087
    المعدل اليومي : 0.15

    افتراضي

    الأستاذ / محمد

    أراك هنا تتعامل بأسلوب المراوغة الحدثية ، تنقلنا من الحاضر للماضي ، ومن البسيط للصعب ، ومن القديم للجديد ، ثم تأتي المفارقة بحضورها ، وإذا بها الطفلة الصغيرة بائعة الورد ، ويأتي وصفك لها بطريقة يسيل لها لعاب القارىء ، وكانه يتوقع العاقبة ، لكن ننخدع مرة اخرى لنجد الرجل اباً حنوناً ، ويأتي الحدث الأكبر ،والفاصل الواضح ، حدث الإنفجار ، وندخل بعدها لنهاية مفتوحة نتساءل من خلالها مع الناس أكانت بنته حقاً ؟

    محمد

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 50
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ألقي السلام أولا ،،، وأثني على هذا الجد في المتابعة والتتبع ...ثانيا ,,
    أما ثالثا : فما على من يتعثر في خطوات الإبداع الأدبي مثل حالي سوى أن يضع بين أيدي الأحبة إنتاجه ولهم أن يروا فيه ما يرون ... وأنت أعلم مني بأن النص يولد مع كل قراءة وبحث وتدقيق
    شكرا صديقي ( وأسمح لنفسي بهذه الصداقة ) تبهرني قدرتك على الحفر فيما تقرأ

  6. #6
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    القاص المبدع محمد الحامدي
    السلام عليك ورحمة الله وبركاته

    إننا أمام نص زمنه يقف عند لحظات أو دقائق ، فهو على المستوى الزمني محدود ، وعلى المستوى المكاني أيضا محدود : بين المقهى والشارع ، ولكن يمتد بنا في دلالاته إلى آفاق فسيحة من تاريخ الشخصيات ، ونحن أمام شخصيتين أساسيتين ، في القصة ، هامشيتين في المجتمع : وردة وأبوها المفترض ، وقد جاء موتها ليكشف النقاب عن هذه العلاقة بينهما .
    لا شك أن القصة فيها كم كبير مما يسمى المسكوت عنه ، وهو هنا : أن وردة تبدو غير شرعية بدليل أنها فتاة شارع بائعة ، وأن أباها شخص عفوي ، يعيش في المقاهي ، وغير مهتم بها من حيث الرعاية والنفقة .
    نرى في القصة بنية وصفية مشهدية ، يمتزج فيها الحوار بالسرد ، وقد لاحظنا أن السرد متدفق ، نقلنا لجو المقهى صوتيا وحركيا ، وكذلك جو الشارع ، وتفاعلنا مع الأزمة كثيرا .
    أتحفظ على :
    - العنوان : فهو شارح وملخص للقصة ، ومباشر .
    - شيوع النقاط دون ضابط بين الجمل ، و معلوم أن النقاط المتفرقة تشير إلى حذف كلمات ، وهذا غير موجود .
    القصة جيدة ، وتعبر عن قاص جيد .
    تحياتي وحبي وتقديري

  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 50
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    شكرا سيدي على إمعانك في النص وتجشمك مشقة النقد ... قد تكون تحفظاتك في محلها غير أني أوضح فقط أن :
    - النقاط التي تدل على قطع في النص هي كما أشرتم سيدي للتنبيه إلى المسكوت عنه ...
    - العنوان الذي لخص القصة : نعم هذا ما أردته حتى لا يبقى القارئ في حدود حدث الموت بل يتعداه إلى دلالته .. أقصد أن السيناريو ليس هدفا هنا بل هو دال من دوال القصة ... هذا ما أردته وقد أكون عجزت عن ذلك فنيا فأرجو العذر ...
    عموما في القصة القصيرة أعتقد أن الحدث دال من دوالها ولهذا يكون واحدا واضحا جليا ... التشويق بالحدث هو في نظري من مشمولات الرواية .. هكذا بدا لي والله ولي التوفيق
    مرة أخرى شكرا سيدي على نقدكم وتوجيهكم وما أحوجني إليه

  8. #8
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان
    أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,286
    المواضيع : 71
    الردود : 4286
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    القاص الرائع: الحامدى

    قصة رائعة امتلك فيها القاص كل أدواته القصية , بدءا من عنوان لافت مميز , وتوغلا متمكنا فى الحبك القصى, وانتهاءا بخاتمة قوية معبرة.القصة بدأت بافتتاحية رائعة تعتمد على السرد السلس الشيق , ولقد وجدت أن الافتتاحية طالت قليلا لكن كانت تلك الإطالة لازمة تماما للتعبير عن بيئة البطل الفجة, فى ايحائية ذكية من القاص لعرض بيئة الوردة...أو البطلة المقهورة. يمتلك الكاتب لغة قوية جدا وشيقة استولت على انتباه المتلقى كاملا, وغوص الكاتب فى كلا المشاعر الجوانية والبرانية لشخوصه- كان رائعا. هدف القصة من وجهة نظرى هو إلقاء ظلال على أطفال الشوارع ومعاناتهم , واستعراض لكل البيئات التى يتعرضون لها , وقدعبرت القصة عن هدفها فى روعة لا مثيل لها. بقى أن أذكر أنه أعجبنى أنا شخصيا دس القاص لشارب بطله فى القصة ووصفه المكنى الرائع له , فى ايحائية عبقرية منه , تعبرعن الفضول السمج الذى كان حاضرا وبقوة لشخوص القصة فى ثنايا الجو العام للقصة.


    شذى الوردة لهذا الإبداع

    د. نجلاء طمان
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  9. #9
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,081
    المواضيع : 101
    الردود : 9081
    المعدل اليومي : 1.27

    افتراضي

    الحامدي..
    العمق الانساني في النص ظاهرة قلما نجدها في النصوص العادية،ولكن مما لاشك فيه ان هذا العمق هو الان مايجذب الانفاس لها لكونها تحكي وبصورة مباشرة هموم الشارع، وتلامس عن قرب المآسي الواقعية التي تمر بها المجتمعات الانسانية الحديثة.
    وقد مثلت وردة هذه الصورة الانسانية في زمننا الاصفر هذا، حيث هي تمثل الشريحة الاكثر داخل المجتمعات، وصاحب الكرش بعيدا عن مدلولات الشرعية واللاشرعية في منادته لها بابنتي، فانه يمثل الضمير المراقب المتعذب الذي يرى ولايستطيع حراكا، وصاحب الورقة الخضراء، انما يمثل التعبنت الانساني والتجبر داخل هذه المجتمعات المضطهدة، والانفجار ربما تمثل في الرؤية المستقبلية للمصير الذي يتوقعه القاص لهولاء..والنهاية جاءت تعبر ان المستقيبل حتى لو حصل فانه لن يكون الا على اعناق البراءة.

    محبتي لك
    جوتيار

  10. #10
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 50
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    يسعدني جدا هذا التحليل الذي " يوهمني " بأني فعلتُ شيئا وكتبتُ نصا يستحق أن يقرأ ...
    لا مفرّ من هذا الواقع الذي يسكننا وتنضح به مسامنا الأدبية ... شكراللأخت نجلاء والأخ جوتيمار أضأتما جوانب هامة من حكاية " وردة " ...

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ماتت قبل مولدها " قمة تونس "
    بواسطة خالد عمر بن سميدع في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-07-2012, 12:48 AM
  2. رسالة من وردة إلى وردة.
    بواسطة د. نجلاء طمان في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 46
    آخر مشاركة: 25-04-2010, 07:53 AM
  3. مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 16-09-2003, 04:10 PM
  4. خارطة الطريق ماتت و حماس لا تقبل هدنة أخرى
    بواسطة النجم الحزين في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 04-09-2003, 12:18 AM