يقول الحلبي في الدر المصون: قرأ الجمهور برفع "البر"، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه. فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ "ليس"، و "أن تُوَلُّوا" خبرها في تأويلِ مصدرٍ، أي: ليس البرُّ توليتكم. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه. وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ، و "أن تُوَلُّوا" اسمها في تأويلِ مصدرٍ. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ. وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال: لأنها تُشْبه "ما" الحجازية، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر:
823 ـ سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم * وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر:
824 ـ أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ * وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله: "بأن تُوَلُّوا" بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ "ليس" كثيراً.
وقوله: {قِبَلَ} منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله "تُوَلُّوا"، وحقيقةُ قولك: "زيدٌ قِبَلك": أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى "عند" نحو: "قِبَل زيدٍ دَيْنٌ" أي: عندَه دَيْنٌ.
قوله: {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ} في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ "البِرَّ" اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة "فَطِن"، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن. الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: "ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن". الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: "ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف" ولا يناسِبُ "ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف". الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: "رجلٌ عَدْلٌ". ويُحكى عن المبردِ: "لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ: "ولكنَّ البَرَّ" بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن "البَرَّ" اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل. الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: "رجل عَدْل" أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: "أقائماً وقد قعد الناس" في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل "بِرَّاً" كـ"سِرّ"، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
وجَعَلَ الفراء "مَنْ آمَنَ" واقعاً موقِعَ "الإِيمان" فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: "ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله". قال: "والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
825 ـ لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى * ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ، والمعنى: لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى.
وقرأ نافع وابن عامر: "ولكنْ البِرُّ" هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع "البرُّ"، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: {وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} [البقرة: 102]، وقرىء: "ولكنَّ البارَّ" بالألف وهي تقوِّي أنَّ "البِرَّ" بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وفي الثانية يقول :
قوله: {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع "البر"، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم.
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش "البُيوت" و "بُيوت" بضمِّ الباء وهو الأصلُ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء، وكذلك في تصغيره،ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً، قاله أبو البقاء.
و "مِنْ" في قولِه: "مِنْ ظهورِها" و "من أبوابها" متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية. والضميرُ في "ظهورها" و "أبوابِها" للبيوتِ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك.
وقوله: {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ} "كقوله: {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان، وهما: "وليس البرُّ" {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ} عُطِف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: "وَأْتُوا البيوت" "واتَّقوا الله". وفي التصريح بالمفعول في قوله: "واتقوا الله" دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى، أي: اتقى الله.
وبالله التوفيق.