بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


معلِّـم لا يُنـسى



إنَّ من نعَم الله السابغة عليَّ أن سَنَّى لي - في مراحل التعلُّم الأُولى - التلمذةَ لعدد من معلِّمي العربيَّة المخلصين المجيدين، غَرسوا في نفسي حبَّ العربيَّة، ونثَروا فيها بُذورَ تذوُّق فصيح الكلام ( شعرًا ونثرًا )، وإدراك جَماله، والتأثُّر بمعانيه، فجزاهُم الله عنِّي خيرَ الجزاء؛ كِفاءَ رعايتهم وحسن تعهُّدهم.
ومن هؤلاء المعلِّمين المقتدرين أستاذٌ له عليَّ منَّة وفضل، علَّمَني في بداية المرحلَة المتوسِّطة ( الصفَّين الأوَّل والثاني )، وتركَ في خَلَدي أثرًا طيِّبًا عميقًا، هيهات أن يُمحى.
إنه الأستاذُ الكبير والمربِّي الفاضل أحمـد قَبِّـش، صاحبُ التآليف النافعة الممتعَة، كان يومذاك شيخًا على عَتَبة الستِّين، وكنتُ وزملائي بين يدَيه أطفالاً صغارًا كبراعم الزَّهر، فكان يأخذُ بأيدينا ويمضي بنا في رحاب العربيَّة رُوَيدًا رُوَيدًا، باذلاً وُكْدَه في تقديم المادَّة لنا بأُسلوب سهل محبَّب، ولا تنتهي الحصَّة إلا وقد وَعَينا الدرس، وحَفِظنا المقرَّر، نعم لا تعجَبوا، فقد كان يَجهَد في إفهامنا، ولا يفتأُ يكرِّر القاعدة، ويُكثر من عَرض الأمثلة والشَّواهد، حتى نحفَظَها عن ظهر قلب، وهو يَهدِرُ بكلِّ ذلك بحيويَّة وحَماسة، حتى لنكادُ نسمعُ خفقَ قلبه.
وممَّا لا أنساهُ له: ما كان يكلِّفُنا به من تعبيرٍ بالرسم عن بعض مَشاهد دروس القراءة، ولسائلٍ أن يسألَ: وما علاقةُ مادَّة اللغة العربيَّة بالرسم ؟! أوَليسَ للرسم حصَّةٌ خاصَّةٌ بـه ؟! وأقولُ: بلى، ولكنَّ الأستاذَ كان حريصًا كلَّ الحرص على أن ينمِّيَ فينا الحسَّ الفنِّيَّ؛ بالتعبير عن الأفكار بالخُطوط والأشكال، وفي ذلك ما فيه من تنشيطٍ لملَكَة التخَيُّل، وشَحْذٍ لها، وتعميقٍ للفكرة في نفوسنا، حينما نجَسِّدها لوحةً منظورة.
وممَّا يميِّز أستاذنا الفاضلَ ويُعلي مَقامَه: ما يتحلَّى به من جِدِّيَّةٍ واستقامة، وتحرِّيه العدلَ التامَّ بين طلاَّبه، وإن أنسَ لا أنسَ ذلك الموقفَ الجريء مع مدير مدرستنا، لقد كان للمدير ابنٌ معَنا في فصلنا، وكان طالبًا عاديًّا، غيرَ متميِّز بجِدٍّ ولا تفوُّق، وكان أبوه يستغلُّ منزلتَه ومنصبَه في دفعه إلى المقدِّمة بالباطل، فكان في بَدء كلِّ اختبار يهمسُ في آذان المدرِّسين والمراقبين؛ يوصيهم بمراعاة ولده، وغَضِّ الطَّرْف عنه، ومساعدته فيما يحتاجُ إليه، ويومَ اختبار اللغة العربية دخلَ كعادته قاعةَ الاختبار، ودنا من أستاذنا يُناجيه، وما هي إلا لحظاتٌ، وإذا بأستاذنا يثور كالبُركان، ويَصيحُ في وجهه على سَمع الجميع: اعلم يا حضرةَ المدير أن ولدَكَ وسائرَ الطلاَّب عندي سواء، لا فرقَ بين طالبٍ وآخرَ، ولا يمكنُ أن أراعيَ ولدَكَ على حساب الآخرين ... ولكُم أن تتصوَّروا حالَ المدير في تلك اللحظات العَصيبة، لقد أسرعَ بالخروج من القاعة لا يَلوي على شيء، متمنِّيًا لو أن الأرضَ بلعَته قبل أن يقفَ هذا الموقفَ المحرج.
وبعدُ، فتلك شذراتٌ برَّاقة من سيرة مُربٍّ أصيل، من المعلِّمين الأَكْفاء المخلصين، الذين طُبعوا على صدق العَطاء، مستشعرين عِظَمَ الأمانة التي نيطَت بهم، وجَلالَ المهنة التي نذَروا لها أعمارهم، وفيهم يقول الشاعر:

أرأيتَ أشرفَ أو أجَلَّ منَ الذي يَبني ويُنشـئُ أنفُسًا وعُقولا

وما أحوجَنا اليومَ إلى أمثاله في مَيادين التربية والتعليم، بعد أن كثُرَ فيها الأدعياء، وقلَّ فيها الصُّرَحاء !!



- نشرت في مجلَّة بريد المعلِّم السعوديَّة، العدد ( 23 )،
السنة الثالثة، شهر رمضان ، سنة 1425 هـ .
- نشرت في صحيفة المحايد السعوديَّة، العدد ( 126 )،
تاريخ 15 من المحرم، 1426 هـ .
- ألقيتها برابطة الأدب الإسلاميِّ العالميَّة، المكتب الإقليميِّ بالرياض،
في 29 من شعبان 1425 هـ ،
عقب محاضرة الدكتور الشاعر أحمد السالم، رئيس قسم النحو والصَّرف وفقه اللغة في كليَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بالرياض، عن تجربته الشعريَّة .
- ألقيتها بملتقى الأدباء الشباب برابطة الأدب الإسلاميِّ العالميَّة، المكتب الإقليميِّ بالرياض،
في 13 من صفر 1426 هـ ، ( بإدارة الأستاذين الناقدين: د. حسين علي محمد و د. صابر عبدالدايم ) .


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


الأستاذ المربي أحمد قبش


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


الأستاذ المربي أحمد قبش في داره بدمشق وعلى يمينه تلميذه
كاتب المقالة في 17 من رجب 1426 هـ