تمثالٌ نصفي
بلا حراك تقف, تنافس في ثباتها قطعة صلصالٍ سوداء كبيرة استقرت على المائدة تنظر إليها بلا إبصار, تترقب متلهفة, كأنها تنتظر في استغاثة ضربات أناملها تعيد تشكيل وجهها الممسوح... كانت تنظر إلى القطعة بعين عمياء, طار منها بؤبؤها إلى الماضي في رحلة داخل تلافيف ذكرياتها, واختلطت أصوات مبهمة في ذاكرتها:
- نعم يعرفكِ وألف غيركِ, في ذات الوقت بذات القلب...
- نعم صلبكِ كالجميع على جدر حزنه الوهمي...
- إنه يرتدي دومًا جلد الضأن فوق قلب الضبع ...
- إنه........
- مستحيل, مستحيل لا أصدق !
- هي الحقيقة, لابد أن تدركي حقيقة الألوان التي تلون سلوكه, إنه........
قفزت عيناها فجأة من ذكريات تلك المنطقة هربًا من جحيمها, لتستقر على قطعة الصلصال , مخلفًا أثر قفزتها الفجائية اضطراب عشرات من دوائر التوتر تحت سطح عجزها, وامتدت يداها إليها تحاول الهروب من شِباك ذكرياتها التي علقت بها. تحسست أناملها القطعة في حذر وكأنها تطأ أرضًا محرمة, وأخذت تتكشف ملامحًا مطموسةً للقطعة الصامتة, استراحت يداها مترددة على جانبي القطعة, لكنها لم تمكث طويلاً بلا حراك بل حركها غضب بارد, ووبخها عقلها:
- إنكِ ترفضين شفقة الآخرين, وتتعثرين في بركة من الشفقة من صنع يديكِ, جابهي الموقف, أسدلي الستار على وجهه المنقوش على وجهكِ, امحه كما فعل هو, شكلي بيديكِ وجهكِ الجديد....
شرعت في العمل بدافع الألم وراحت تحدد على الصلصال ملامحه الجديدة, وثارت فيها نشوة غريق لمح طوق نجاته بعد دهور من غرق الضياع, وسمعت طبول الانتصار تدق داخل عقلها, مدغدغة وجنة سعادة وليدة, لكنها كانت كالطبل الأجوف مثل حياتها تمامًا. كبلها الوقت داخله كأخطبوط وحيد والتفت حولها أذرعه, فاستسلمت لعناقه هاربة من الماضي والمستقبل وتاركة يديها تحدد وجهًا جديدًا, وكل قطعة من مشاعرها ذهبت خالصة للصلصال الناعم. أنَّت يداها مرهقةً تنبئ بانتهاء العمل , فتوقفت تتأمل إبداعها في فخر, تنظر بطرف سعادة إلى وجه التمثال الناطق... لينسحب فجأة هذا الطرف في عنف بيد الذعر الذي ارتسم على ملامحها عند اصطدام عينيها بوجه التمثال, ارتفعت دقات قلبها في عنف وأخذ قلبها يركض بين أضلعها راقصًا رقصة ذهول, تلعثمت كلماتها على لسان صدمتها, فأخذت تهز رأسها رافضة غير مصدقة ما ترى... وامتدت يداها على وجه التمثال تتحسسه لتصفع عينيها الكاذبة, شعرت بالمعالم الصلبة لفكه القوي تحت يديها, وانطلاقًا من خط الفك, أخذت أطراف أناملها تسري على خديه حتى وصلت إلى عظمتي الوجنتين, ثم إلى فوق حيث رموشه المعقوصة فوق عينيه الناظرة إليها, لتتحسس بعد ذلك حاجبيه الكثيفين وجبينه العريض, وشعرت بشعره القصير, واصطدمت بأنفه الروماني المتناسب مع غروره, لتنتهي على شفتيه مستشعرة حزمهما الرقيق وانتهت من فحص زوايا ذقنه القوية, واستقرت هناك تقسم لها بعد الرحلة أن هذا الوجه... وجهه هو !
اجتاحت الجروح كيانها , وتدفقت الذكريات تجرف بقايا عمرها المنحور, وصرخ عقلها حانقًا:
- حطميه.. دمريه ! حوليه إلى كومة من الصلصال..
استراحت يداها على جانبي الوجه تعانقه مرتعشة, وأبت تنفيذ الأمر, ثم أطبقت يداها المرتجفة على كتف التمثال النصفي, ثم أنزلتها إلى صدره, ووضعتها في احتياج على قلبه, وشعرت وكأن نبضاته ترددت فوق راحة يديها وكأن نبض قلبه انطلق في سباق جنوني مع نبض قلبها الملتاع. سقطت دمعة, ثم دمعة أخرى, وانفرطت مسبحة الدموع ساحبة معها حبات من نبضه- هذا النبض الذي طالما انساب على صدرها غافيًا مرتاحًا. أجهشت بالبكاء فجأة عندما تذكرت فجيعتها فيه, ثم صرخت في ثورة:
- لاااااااااااااااااااا
ثم انطلقت يداها تحطم التمثال وهي تصرخ في هيستيريا :
- أخرج مني أيها الأفعى... أيها المخادع.. اخرج !
- اخرج مني... لم تعبث بداخلي؟؟ لم لا تخرج ؟؟
- اخرج مني أيها الوهم.. اخرج مني...اخرج...
توقفت منهكة وقد تناثرت القطع والبقايا في جميع أرجاء الغرفة, فأخذت تلهث في إعياء وقد تهدل شعرها الغسقي كشلال نار على وجهها وكتفها وتشعث ملتصقًا بدموعها, تراقص نشيج على أوتار حلقها المصلوب على حائط الغصة, واهتز جسدها من مفرق رأسها إلى أخمص قدميها منتفضًا في عذاب, وامتدت أطراف أناملها المرتعشة تمسح بقايا من خط دموعها المتحرشة بخصلات شعر ثائرةً على وجهها, فخلفت وراءها خطًا من الصلصال الأسود أطفأ عزيمتها. تحدب كتفاها , وتقوس ظهرها من شدة الألم في صدرها, وصرخ قلبها متوجعًا:
- أرجوكِ, أخمدي تلك النار التي تأكلني, خلصيني من هذا الألم, اقتليني...
تجاهلت نداءه في عجز مرير, وتركت جسدها ينهار مع أملها على المقعد ثم أسندت رأسها على انهيارها وتركت عينيها تسبح على فوضى الصلصال التي وضعت بصمتها على كل مكان بالغرفة, وارتخت جفونها في إرهاق وعجز لتنغلق على آخر مشهد منعكس على عينيها الدامعة ؛ آلاف من قطع الصلصال المتناثرة؛ كل قطعة تتشكل على حدة, ليتكون من كلٍ منها وبكل تحدي... تمثالٌ نصفي.




رد مع اقتباس






