
الوردة السوداء !
رغم أني مولودٌ في هذه المدينة وأعرف كل تفاصيلها كما أعرف تفاصيل أعضاء جسدي, لكني لم أكن أعرف أن في أطراف مدينتنا متنزهات جميلة جدًا يعشقها القلب قبل العين؛ شيء ولا في الخيال... من ملاهٍ للأطفال ونواعير وشلالات اصطناعية حتى صوت العصافير الذي يملئ المكان وكأنه صوت " فيروز" يدغدغ أذني كل صباح .
انبهرت بما أرى وصرت أسأل نفسي: متى بُنيت هذه المتنزهات وكيف لم أسمع بها أبدًا؟؟ بقيت أجول ذاهلًا في تلك المتنزهات وأنا أمتع ناظري بجمالها. فجأة وبينما عقلي وناظري شاردان من جمال ما أرى, مر بالقرب من أنفي رائحة من أجمل الروائح التي أبدعهاالله. تابع أنفي مصدر تلك الرائحة وإذا بعيني تفاجأ بحديقة لا أول لها ولا آخر مليئة بورودٍ من كل لونٍ ونوعٍ, فتمتمتُ ذاهلًا: يا الهي... إنها الجنة ! دخلتُ تلك الجنة وصرت أتلمس الورود وأشم رائحة هذه وتلك, وبرغم أنني أحسست أنني توغلت كثيراً , إلا أن استمتاعي كان أكبر من حذري, وفي عمق نشوتي واستمتاعي بتلك الجنة, إذا بيدٍ توضع على كتفي من الخلف, التفتُ لأرى من يكون هذا..؟
فتراجعت مصعوقًا: سبحانكَ ربي ما هذا... ملاك ؟؟! رجل مستحيلٌ وصفه؛ حلو القامة, واسع العينين, رقيق الابتسامة, لامع الوجه.. شديد بياضه, يرتدي ثوباً أبيض ناصعاً بياضه,تكاد شدته تعمي بصري يحمل بين يديه وردة مستحيلٌ لونها... وردة سوداء.
نسيتُ الجنة والملاك, وصرت أحدق في تلك الوردة مدهوشًا: أهناك وردٌ أسود؟؟ أنا لم أرى وردة سوداء طوال حياتي ولم أسمع بوجودها!. غبت عن الوجود وأنا مازلت أحدق فيها, لماذا لا أستطيع تحويل عينيَّ عنها, كأنهما مصلوبتان على حدود جمالها الفتان.
ثم تحدث ذاك الرجل الغريب وقال:
-كيف حالك يا بني؟؟
- الحمد لله انا بخير!
- ما بكَ تنظر لهذه الوردة كثيراً هل اعجبتكَ؟؟
لم تعجبني فحسب سيدي, إنما هي تدهشني فأنا لم أرَ وردة مثلها من قبل ولم أسمع بتاتاً ان هناك وردة بهذا الجمال المبهر وذاك اللون المدهش!
الرجل وهو يبتسم:
- معك حق يا بني فهذه الوردة ليست ككل الورود... إنها أمانة.
اجبته مستغرباً:
-أمانة ! أية أمانة يا سيدي؟؟
- اسمع يا بني لا تسأل كثيراً, إن كانت الوردة قد أعجبتكَ سأعطيها لكَ.
أجبته ذاهلًا:
- تعطيها لي أنا ؟؟
- نعم خذها, واذهب بها حيثُ تريد , بشرط أن تحافظ عليها طوال عمركَ.
- كيف احافظ عليها طوال عمري؟؟ فالورد عمره قصير جداً!!
- يا بني خذ الوردة واعتني بها واسقها كل يوم وستعيش معكَ ما تبقى من عمركَ.
مددتُ يدي لآخذ الوردة منه, وقبل أن تلمسها يدي, أمسك الرجل بيدي وقال:
- قبل أن أعطيك الوردة هل تعاهد الله أن تحافظ عليها وتعتني بها كما تعتني بعينيكَ.
-أعاهد الله ومن بعده أعاهدك أن أحافظ عليها ما دمت حياً.
اعطاني إياها فأمسكتها بكلتايدي, واذا بي أرى العجب؛ فبرغم شذى هذه الوردة العبق, ولونها الجاذب, إلا أنني أرى جدران أوراقها متشققة, ثم وصل تعجبي أقصاه عندما نزلت على إحدى يدي قطرات ساخنة وكانها قطرات دمٍ لجرحٍ مازال حديثاً. أحسست انها تنظر إلي, ثم وكأنني سمعتها تهمس لي :
ساعدني !
عجبًا هل تتوسلني أن أداوي جرحها! رفعت عيني لأسأل الرجل عن سر هذه الوردة, لكني صدمت بأنه اختفى ولم يعد له أي أثر, ركضت يميناً ويسارًا أنادي:
يا سيدي .. يا سيدي! أين أنت.. ولكن دون جدوى. فقد رحل الرجل الغريب دون ان أعرف عنه أي شئ. أمسكت الوردة بكلتا يدي كأنها طفلتي, وهرعتُ عائدًا لبيتي.
في طريق عودتي صادفني زحام شديد في الشوارع, وكان الناس يتخبطون بي وكانهم يتعمدون اسقاط الوردة من يدي, شعرت في عيونهم بسهام من الغيرة والحسد تتربص بي وبها, فأخذت الوردة في صدري خوفًا, وبنيت لها حاجزاً من كف يدي الأخرى وصرت أمشي بحذرٍ شديد حتى وصلت الى البيت. على الفور جلبتُ كوباً وملأته بالماء ووضعت وردتي فيه ثم دخلت بها الى غرفتي ووضعتها على طاولةٍ بالقرب من سريري وجلست اتأملها:
سبحان الله...ما أجملها ! أحسست بالوردة تتنفس الصعداء ثم شعرت وكأنها نظرت إلي , ثم انحنت مع عودها, وكانها تنحني تعبيراً عن شكرها وامتنانها لي, وجدتني لا شعوريًا أبادلها الانحناء... ثم استلقيتُ على سريري لأرتاح قليلاً, ونظري ما زال مثبتًا عليها, وبينما أنا سارحاً بخيالي اذا بصوت قوي جدا ً ومفزع يرفعني من على سريري ويسقطني أرضاً... آآآآآآآآآه يا الهي... انه انفجار آخر لعين !
ركضتُ إلى الشرفة لأرى ماذا حدث وإذا بي أرى سيارة مفخخة قد انفجرت
محولة الحي كله الى جحيم يشتعل , وتشتعل ناره في عشرات الجثث من الأبرياء...
دمعت عيناي من هول ما رأت وايقنتُ أن اللحظات الجميلة التي عشتها في الجنة
ما كانت سوى حلم , أبى المحتل والإرهابي إلا أن يحرماني منها, انتهت عيناي من مشاهدة الفاجعة, فدخلت حجرتي أترنح فوجدتُ نفس كوب الماء الذي رأيته في حلمي, يستقر هناك على الطاولة, لكن من دون وردةٍ سوداء.
بقلم
أكرم الشرفاني