في ذلك الصباح الذي تشوبه بعض نسمات الهواء الباردة ، تفتحت عيناه الناعستان بلونهما الأزرق الرائق لتتدحرج منهما دمعة صغيرة كانت أجفانه قد احتجزتها حين أحكم النوم قبضته عليهما ....
بخطى بطيئة قام يتحسس المكان حوله و ينادي : " أمي ... صباح الخير" .... صمت قليلا لكنه لم يجد لندائه رجعاَ فأعاد ثانية : " أمي ... أين أنت ؟" ... ؛ فجاءه صوتها الحاني هادئا مطمئِنا: "أنا هنا يا صغيري ... سآتيك حالاً " ، فسكن صوته و ارتاح لسماع همساتها و جلس يترقب طيفها ، و ما إن رآها قادمة حتى تفتر ثغره عن
ابتسامة تقاطرت عذوبة و براءة ، و التمعت عيناه الزرقاوان و هو ينهض كي يرتمي في أحضانها، ناعما بدفء نبضاتها الحانية ...
بحنانها الدافئ تحسست شعراته الناعمات قائلة : " أراك قد استيقظت مبكرا اليوم ، ترى ما السبب ؟" .
- " أنتظر أبي ، ألم يعد يا أمي ؟ ألم يقل لنا بالأمس و هم يأخذونه أنه لن يتأخر " و خرجت من بين جنبات صدره تنهيدة صغيرة متابعا :" ظننته قد عاد .." ، و نظر في عيني أمه باحثا عن التماعة أو بسمة تزيل شجون تساؤلاته ؛ فبادلته نظرات تفيض سكينة مبحرة في عينيه كأنهما بحر تتهادى على أمواجه أشجانها باحثة عن مرسى يطفئ لهيب حيرتها ، ترقبها لعودة حبيب انتزعته أيادي حقد إسرائيلية ...

و على الجانب الآخر من المشهد .. حيث لا شيء سوى حقد دفين تواجهه إرادات متصلبة ، كان أحمد ... مقيد اليدين ، معصوب العينيين ، يقتاده ثلاثة جنود ...
كانت نبضاته سريعة متًّقدة ، يشعر بها و يسمع تلاحقها ... يتملكه شعور بأن كل العالم يسمعها ،لكنها لا تجد إلا صداها ...
" ترى أي قادم تخبئ لك هذه الخطوات و أنت لا ترى إلا سوادا حالكا و لا تسمع إلا حديدا صدئا ؟! " ....
" أجل أعلم ، سيكون القادم مرا مذاقته كطعم العلقم ".
جاء الصوت السجان غليظا : " انزعوا عصابته ، و فكوا قيده ، يجب أن يرتاح ، فغدا ينتظره يوم لم يطلع عليه مثله منذ ولدته أمه" ، و انطلقت ضحكاته الكريهة يملأ صداها أرجاء المكان ...
نظر أحمد حوله متأملا زنزانته الصغيرة ،و أخذ يقلب بصره بين جدران ارتسمت عليها خيوط العفن بعشوائية مقززة ،و أسرَّة أكل الدهر عليها و شرب ،و جماعات من الحشرات تتناثر يمنة و يسرة في أرجاء الغرفة ....
" يالهم من أوغاد ..ما هذا ؟! ... الرطوبة قاتلة ،و رائحة المكان تبعث على الغثيان ... رحماك ربي .."
- " أهلا بالأخ الطيب" .. جاء الصوت هادئاً من ركن الغرفة ،فالتفت أحمد بسرعة ناحية الصوت ،فوجد بقايا شاب نحتت العذابات جسده و غير السجن ملامح شبابه .... نظر أحمد متفرسا ذاك الجالس في الركن ساكنا ،تلتمع عيناه بنظرات صقر جارح لا تخفي جمال قسماته ... فتقدم إليه أحمد قائلا: "أهلا بك أخي ... .من أنت ؟"
- "معاذ ، في السابعة و العشرين من العمر، و أنت ؟"
- " أنا أحمد، أبلغ من العمر ثلاثين عاما ..، لكن لماذا .. "

- "لا تسأل يا صديقي"، قاطعه معاذ "تعال و اجلس إلى جواري ... "
اقترب أحمد ناحية معاذ و جلس ، فأخذ معاذ بيده قائلا: "الآيات هنا معكوسة ، الظالم مظلوم و المظلوم ظالم"، ثم أطرق هنيهة و أكمل : "أنت من خليل الرحمن ، أليس كذلك؟"
- "بلى لكن كيف عرفت ؟" تساءل احمد مشدوها ، فتبسم معاذ قائلا : "يشك جهاز الاستخبارات الإسرائيلي أن منفذي عملية استشهادية سيخرجون من الخليل هذه الأيام ؛لذا فهم يعتقلون شبابها للتحقيق ... "
و ما إن سمع أحمد كلمات معاذ حتى علا وجهه الوجوم لا يدري ما يقول ....
لحظات مرت .... و بدأ معاذ يشعر بازدياد حدة الضربات في صدر أحمد، فاقترب منه و ضغط على يده بشدة و قال: "كن قويا يا رجل ،أنت شاب مؤمن فلا تخشَ إلا بارئك" و أخلى يده تاركا إياه تتضارب الأفكار في رأسه ، لا يدري أيعجب لصلابة هذا الشاب؟ .... أم يرثي لحال زنزانته المقيت؟ .... أم يتساءل عن القادم في الغد؟ ....

و كما سابقا ... صوت السجان الغليظ يقطع خلوته: "انهضا أيها الغبيان ... موعد التفتيش ".
فنهض أحمد و معاذ من مكانيهما و ضحك معاذ مستهزئا: "موعد التفتيش ؟! .. أضحكتني ... و منذ متى كان لديكم مواعيد للتفتيش ؟!"، فثارت ثائرة الضابط و صفع معاذ صفعة أسالت الدم من وجهه "هذه كي تتعلم ألا تهزأ بقوانيننا ... هيا انزعا ثيابكما " ،و مرة أخرى جاءه صوت معاذ متحديا : "لا شك أنك تهذي أيها المتغطرس،من تظن نفسك كي تجردني من ثيابي ؟!".
زاد احمرار وجه السجان و زمجر قائلا: "أتتحداني أيها الحقير؟ سأريك من أنا..." ،و أخذ يضربه بهراوته الغليظة حتى أسقطه أرضا، ثم انقض عليه يركله و يضربه في كل أنحاء جسده و معاذ ملقى أرضا عبثا يحاول أن يحمي جسده من الهراوة و الركلات، و هو يتلوى ألما لشدة الضرب ....
و فجأة انقض أحمد على السجان منتصرا لأخيه يذود عنه و يقول : "ابتعد عنه أيها الضخم ... يال قسوتك .. ابتعد".
ارتفع الصراخ و تعالت أصواتهم، فجاء الجنود مدججين بهراواتهم اللاهثة المتلهفة كي تنال من الأجساد الغضة، و التفوا حول أحمد و معاذ و انهالوا عليهما ضربا و شتما بهراوات عمياء تصب حقدها على وجهيهما و جسديهما ،و كل منهما يشد أزر الآخر و يحاول أن يتلقى الضربات دونه ليحميه من الآلام الجامحة ...
و تحت الضرب الشديد .. مرت الدقائق بطيئة على السجينين حتى فقدا وعيهما ..،فصرخ الضابط: "احملوهما إلى غرفة التحقيق ...يجب أن يتعلما كيفية التعامل مع سادتهم .."


و بعد عدة ساعات ...

استعاد معاذ وعيه ... كانت الآلام تغزو جسده و لا يملك لها تخفيفا .. عينه اليسرى منتفخة لا يكاد يرى بها شيئا ، لكنها احتفظت بتلك النظرات الحادة الدقيقة ... " يا رب ساعدني و لا تمكنه مني ... يا رب " انطلقت دعواته تهاتف رب البرية بصوت صادق و إحساس خاضع مستسلم .. و في غمرة آلامه و أناته تذكر أحمد و الذي ما عن التفت حتى رآه ممدا في زاوية الغرفة الصغيرة ، و في محاولة يائسة منه للنهوض ،حاول معاذ أن ينتصب على قدميه لكنهما لم تساعداه فقد أضناهما الألم ،و أضعف الضرب الشديد قوتهما ؛فحبا حتى وصل إلى حيث تمدد جسد أحمد ،و هو يسمع آهاته الخفيضة فيتحسس وجهه بحب صادق ، و يقرأ له بعض آيات من كلام الله المنزل علها تسكن القليل من آلامه و أناته ...
دقائق مرت قبل أن يستعيد أحمد وعيه ،و ما إن فتح عينيه حتى رأى معاذ جالسا إلى جواره يتبسم بيقين و هدوء قائلا: "أفقت أخيرا ... حمدا لله على سلامتك " ،فتبسم أحمد قائلا : "أجل لكنني أتألم بشدة .."، ثم أمعن النظر في وجه معاذ و استدرك : "لكنّ عينك منتفخة جدا ،هل تؤلمك ؟"
- "أجل .. لكن لا بأس ، لقد اعتدت على قسوتهم "، ثم صمت قليلا قبل أن يكمل : "أنا آسف يا أحمد لأنني عرضتك لهذا الضرب دون ذنب " ...
- "كلا .. لا تعتذر أبدا ، على العكس أنا فخور بك لمواجهتك ذاك المتغطرس ،و كان عليّ أن أساعدك منذ البداية .." ، ثم تبسّم مكملا: "أنت شجاع يا معاذ ،سأحاول أن أكون صبورا مثلك في الأيام القادمة ... فقط أتمنى أن تخف آلامي قليلا كي أصمد أكثر ..." ..
- " ستزول بإذن الله ... قليلا من الصبر و نقتل ذاك السجان بغيظه" ...
فجأة .. سمعا أصوات خطوات تقترب من الغرفة أكثر فأكثر ؛فعلما أن المتاعب في طريقها إليهما فتعاهدا على الصبر حتى يملَّ الصبر منهما ..... و كان كما توقعا ..


يُتبع