الوعي والوعي الفكري
د.أشرف يوسف

مفهوم الوعي :
إن استخدام المفاهيم يتطلب تحديد دقيق لمضامينها و توضيح لأبعادها، حتى لا يؤدي ذلك إلى الارتباك في الفكر والاضطراب في الفهم والخلط بين المفاهيم، ويؤدى بالتالي إلى الخطأ في إطلاق الأحكام على الناس والأشياء، ومن القواعد المعروفة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فإذا لم تكن القضية المطروحة للبحث قد اتضحت معالمها في الأذهان وتحددت أبعادها فإن الحكم فيها سيكون حكما بعيدا عن الصواب ، لذلك لابد من تحديد مفهوم الوعي .
فالوَعْيُ: حِفْظ القلبِ الشيءَ. و عَى الشيء والـحديث يَعِيه وَعْياً و أَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ. وفـي الـحديث: " نَضَّر الله امرأً سمع مَقالَتـي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامِع"ٍ ، وأُذُنٌ واعِيةٌ. وفـي حديث أَبـي أُمامة: لا يُعَذِّبُ قَلْباً وَعَى القُرآنَ ، قال ابن الأَثـير: أَي عَقَلَه إِيماناً به وعَمَلاً، فأَما من حَفِظَ أَلفاظَه وضَيَّعَ حُدوده فإِنه غير واعٍ له .
ووردت الوعي في السنة ولها معني الإدراك والفهم للعمل فعندما سأل الحارث بن هشام رضي الله عنه رسول الله صلي الله عليه وعلى أله كيف يأتيك الوحي فقال الرسول الله صلي الله عليه وعلى أله أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وعلى أله "استحوا من الله حق الحياء قال قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله قال ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" .
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ ، وقال قتادة:{ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله ، ومعظم المفسرين يؤكدون على أن (تعيها) تعني تحفظها وتعقلها وتفهمها ، وأن الأُذن الواعية هي الحافظة لما تسمع، وهي التي تعقل عن الله وتنتفع بما تسمع، فالأُذن تسمع ما يصل إليها من أخبار، خيّرة كانت أو شريرة، فتنقلها إلى العقل ليجري المحاكمات اللازمة في ضوء ما لديه من المفاهيم والمقاييس والقناعات، ثم تصدر عنه الإجابات التي ما أن تختلط مع أحاسيس القلب ومشاعره وتتجاوب مع العقل وقناعاته حتى تحقق الانسجام الكلّي في شخصية متكاملة متميزة ، ويتحقق بذلك الوعي القائم على اثر القناعات المؤدي إلى تأثير الاطمئنان .
وعرف البعض الوعي بأنه " إدراك المرء لذاته ولما يحيط به إدراكا مباشراً وهو أساس كل معرفة " .
ومن كل ما سبق نقول أن الوعي هو الفهم والإدراك للأشياء والوقائع وتفاصيلها ، والأسباب الكامنة وراءها ، والأحداث التي صاحبتها في إطار من المفاهيم والمقاييس والقناعات .
وقد اخذ مدلول (الوعي) يتفرع ويتوسع، ليدخل العديد من المجالات النفسية والاجتماعية والفكرية، فقد كثرت المجالات التي يضاف إليها الوعي، فهناك الوعي الاجتماعي والوعي الطبقي والوعي الفكري والوعي السياسي........ ،
الوعي الفكري :
إن الأفكار في أي امة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إذا كانت امة ناشئة وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت امة عريقة في الفكر المستنير ، وأما الثروة المادية والاكتشافات العلمية والمخترعات الصناعية ، وما شاكلها ، فإن مكانها دون الأفكار بكثير بل يتوقف الوصول إليها على الأفكار ، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار ، والمراد بالأفكار هو وجود عملية التفكير عند الأمة في وقائع حياتها بأن يستعمل أفرادها في جملتهم ما لديهم من أفكار يبدعون باستعمالها في الحياة فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح طريقة تفكير منتجة .
وقد وردت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تحض على التفكير يقول تعالى :﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ ، وقال تعالى : ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾،وقال سبحانه : ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ، وقال تعالى : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فالقرآن خاطب العقل وحض على التفكير وذم الذين لا يعملون عقولهم ولا يفكرون ، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ، وقال جل في علاه : ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
والتفكير المطلوب لا بد أن يكون مستنداَ لأساس فكري أو قاعدة فكرية حتى يكون تفكيراً منتجاَ ؛ والذي يبدأ بالإحساس بالواقع إحساساً فكرياً يكون الفكر مصدرا له ، وليس هو مجرد الإحساس بالشيء الذي يأتي طبيعيا لمجرد الشعور بالواقع فيتجاوب معه الإنسان من غير نظر أو تفكير ، أي إحساساً ناتجاً عن فهم ومعرفة وإدراك في إطار ما لديه من مفاهيم وقناعات ومقاييس ، وهذا هو المكون الأول للوعي الفكري .
إلا أن مجرد فهم وإدراك الواقع لا يكفي لإيجاد الوعي الفكري ، بل لا بد من فهم وإدراك المعالجات لهذا الواقع ، والواقع البديل لهذا الواقع في إطار المفاهيم والقناعات والمقاييس ، سواء بالتغيير أو التحسين ، وهذا هو المكون الثاني للوعي الفكري .
والإنسان دائم التفكير بمستقبله سواء القريب أو البعيد ؛ المتعلق منه بالحياة الدنيا أو بما بعد الحياة الدنيا ، والتفكير بالواقع سواء بتغييره أو تحسينه أمر ضروري للإنسان والحياة ؛ لان التغيير هو الحركة والحركة هي الحياة ، لذا كان لا بد لكل أمة من التفكير بتغيير الواقع والعمل على تغيير أحوالهم ، يقول تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ ، ومن هنا كان الوعي الفكري بمكونيه معرفة وفهم وإدراك الواقع ، وفهم وإدراك البديل لهذا الواقع ومعالجاته في إطار المفاهيم والقناعات والمقاييس هو الأساس في التغيير ، وكلما ازداد الوعي عند الأمة كلما ازداد إحساسها بالقضايا الفكرية .