توضيح المناظير فيما جاء في"اكتفاء العصافير"

أستاذي الكريم الشاعر المجيد و الناقد المتبصر الدكتور مصطفى عراقي..
إخوتي الأعزاء الأفاضل السادة من لم يتسنّ لي الرد على مداخلاتهم :مجدوب المشراوي، الحسيني الطنطاوي، محمد معروف ، يحي سليمان،جلال الصقر،هشام مصطفى
أعتذر أولا عن الرد على ما أكرمتموني به من محبة الدخول إلى متصفحي و الرد على كلماتي التي وردت في هذا المقال..
ظروف متعلقة بالعمل أرجأت الدخول إلى الواحة و الرد على القصائد .. وأنتم تعرفون ما للمدرسين في هذه الفترة من انشغالات متعددة..
و أرجو أن يتسع خاطركم- و أنتم أصحاب الفضل الواسع-، وكذلك كل الإخوة الذين علقوا على المقال، على تأخري في الردّ عليهم في الوقت المناسب..
أستاذي الكريم..
لم يكن في نيتي- و الله أعلم بالنوايا- النظر إلى مسألة التدوير العروضية عند الخليل بن أحمد الفراهيدي من باب الاستهزاء أو السخرية أو التقليل من المسألة التي خاض فيها الرجل و أخذت وقتا من عمره من أجل إيجاد ركيزة تقعيدية لعلم لم يكن ليكتشف بهذه الطريقة لولا صبره و تفانيه و علمه.
و إذا كان في المقال شيء من "روح الملح" المشوبة بشيء من" المشاكسة "في صياغة الأفكار الأساسية التي وردت فيه ، فإن هذا لا يعني أنها من باب الإستهزاء و السخرية المقصود ين المتعمدين. و هي لا تعني كذلك عدم وجود تبرير علمي لما أوحت به العبارة التي اقتبستموها من المقال، كما لا يعني بتاتا أن هذه العبارة تنم عن موقف معادٍ لما جاء به الخليل..مثلما ورد في مداخلة أخي جلال الصقر مشكورا حين قال:
"الخليل رحمه الله قد قضى نحبه منذ ما يقارب الثلاثة عشر قرنا
وبالتالي هو لا يقف في وجه أحد و لا دوائره "التي رأيتُ أنها
صارت محل سخرية في المقال وهذا ديدنكل من يدعون الحداثة"
و حتى لو افترضنا أن الخليل بن أحمد قد دارت في رأسه الدوائر - و قد دارت في رأسه فعلا-،فهذا لا يعني بالنسبة لي على الأقل ، أن أفكاره العامة حول علم العروض الذي تحول إلى نظرية تحمل اسمه هي "الخليلية العربية" و استفاد من دقتها علماء اللسان و الصوتيات و علماء البلاغة المعاصرون و من ضمنهم العلماء الغربيون ، هي -في نظري على الأقل- محل حط ّ من قيمة الشعر العربي العمودي ، و محل ثورة حداثية عليه.. و هذا ما كدت افهمه مما ورد في مداخلة أخي جلال الصقر حين قال: "لقد استغربت أن يصدر ذلك الهزء عن أديب في قامتك أكن له كل الود و التقدير"
لولا أنه استدرك فيما اعرفه عنه من شهامة موقف وصواب رأي حين أضاف:
الذين- يقصد الود و التقدير- لم يتأثرا بهذا المقال لأني أعرف أن نيتك سليمة ليس هدفها الهزء من الخليل لذاته و إنما تقريع المتعصبين ممن يرفضون الخروج عن عباءة الخليل حتى و لو كان هذا الخروج إلى شعر التفعيلة الذي لا نرى جميعا داعيا لرفضه فهو في نظري تجديد و حداثة محمودان" ..

و لعلكم-أستاذي الفاضل- الدكتور مصطفى عراقي تعلمون من خلال معرفتكم بما تبسر لي من الكتابة الشعرية أنني لست ضد الشعر العمودي..و لكنني ضد الستاطيقية المتجمدة التي تنظر للقواعد الخليلية على أنها دستور لكل الشعر في كل الأزمنة و كل الأمكنة لا يجب أن يحيد عنها حائد. و هذا ما ورد في مداخلة أخي جلال الصقر، ونحن هنا غير مختلفين
و لعلمي بمقدار اهتمامكم بالموضوع- و قد كتبتم عنه من المحاضرة العلمية الصارمة منهجا و مرجعا و التي أشار إليها أخي محمد معروف مما استفدت منه أيما استفادة منذ مدة-،فإنني أقدر دفاعكم عن الفكرة التي ربما بدت لكم أنني أنظر إليها على أساس أنها ضد التجديد، و أن الخليل إنما كان يدّور الدوائر في ذهنه فقط،و أن الشعر قد اتخذ له سبيلا آخر غير الذي خطط له الخليل بن أحمد في دوائره المشهورة شهرة نار على علم. فكان ردكم، من خلال آراء العلماء المذكورين في مداخلتكم، تحمل فكرة الدفاع عن الخليل من حيث كونه لم يغلق باب الاجتهاد في علم قابل للإضافة نظرا لطبيعته التي تجنح للتجديد و تنفر من التقليد وتستأنس بكل ما هو أقرب إلى الآفاق منه إلى الحدود..
و أنا هنا لا أقف ضد هذه الآراء، بل أدعمها و ادعم رأيكم -و قد نورتمونا بحضور البديهة العلمية التي تتحجج بحجة العلماء، و تنهل من منهج البلغاء. و ليس لي في هذا الباب ما أقول، لأنني أحسب أن هذه الحجج توافق في عمق فكرتها ما ورد في المقال و لا تخالفه..
غير أن الذي يبدو أنه محل خلاف هو الزاوية التي ننظر منها إلى الفكرة المطروحة في المقال.. فلم يكن المقصود ما أشرت إليه قبل قليل، و إنما كنت أقصد أن الخليل بن أحمد اشتغل بالبحث عما يسميه علماء الرياضيات بـ" انغلاق الدائرة " وفق الحساب الحركي المبني على اكتشافه للضفر المنتظم للحركات و السكنات داخل البناء اللغوي للبيت. فنجم عن ذلك نغم متميز يختلف عن نغم آخر ينجم عن ضفر آخر للحركات و السكنات.
و هذا ما جاء في مداخلتكم الثانية على أخينا الفاضل الشاعر مجدوب المشرواي حين قلتم:
"فالموسيقا عنصرواحد من عناصر الشعر مهم ولكنه لا يغني عن سائر العناصر البنائية الإبداعية .وكذلك ليس الشعر نغما واحدا يتوزع على القصيدة أوالمقطوعة ، بل لكل قصيدة إيقاعها الخاص حتى القصائد التي تشترك في بحر واحد يختلف الإيقاع في كل قصيدة منها"
و مما هو معروف ، وفقا لما روي عن الخليل نفسه،انه أراد أن يتفرغ لعلم لم يسبقه إليه أحد من قبل و هو إيجاد طريقة لضبط طريقة ضفر اللغة في حركاتها و سكناتها تصبح مرجعا للدراسة لم يكن موجودا من قبل على الرغم من معرفة العرب للبحور عن طريق السليقة. وهذا العلم هو الذي أصبح محط أنظار العلماء قبله في مناقشات و إضافات و محاججات تنم عن وعي عميق بالمسالة العروضية و اهتمام كبير بما جاء به الخليل من جهة، ولكنها تنم كذلك عن إفراط في تكرار بعض جوانب المحاججة من طرف الدارسين الذين جاؤوا بعده حتى بدا هذا العلم مكرورا و مملولا في بعض جوانبه التي أوحت للكثير أن الشعر هو العروض، و أن الوزن إنما ضبطه الخليل. في حين أن المعروف أن الأوزان سابقة للعروض بوصفه علما يضبط القاعدة الأساسية التي تسير عليها الأوزان.
و لعل هذا ما أراد الأستاذ الشاعر مجدوب المشراوي أن يطرحه من خلال محولته استبعاد إطار النقاش من وجهة نظر حداثة التقطيع العروضي وإرجاعها إلى قدم الأوزان بقدم الشاعر فقال بطريقة يريد من خلالها أن يصل إلى جولب شاف خشي أنيهرب المناقشون منه فقال:
قبل الخليل وقبل التفعيلات ما الذي كان ؟أليست أنغام موسيقية مرتبطة جدا مع النفس ومع إيقاعات من الطبيعة أليس هذا الذي حدث..والسؤال : هل وجدنا أنغاما أخرى شعرية بلا تفعيلة و تغنينا بها شعرا لفترة طويلة لتصبح بعد ذلك منالشعروفق نظرة التفعيلات ؟؟ يعني أليس الشعر هو موسيقى ونغم واحد يتوزع على القصيدة أو المقطوعة ؟أنا أحدّد المسألة فلا تهربوا إلى العموم"..

و كأنني به يريد أن يحمل المسالة برمّتها على محمل الفطرة التي فطر الله سبحانه و تعالى الشعراء ،فأعطاهم القدرة على تصنيف الكلام وفق مصنفات موسيقية لا يستطيع غيرهم القيام بها حتى و إن استطاعوا تحديدها كما فعل الخليل بن أحمد والعروضيون من بعده.
ثم إن توفر شرط معرفة الأوزان و القدرة على نظم الكلام داخلها لا يجعل من الحائز على هذا الشرط شاعرا حتى و إن استطاع أن يكون ناظما. وهذا ما وضحه أستاذنا مصطفى عراقي كما قلنا

و لعل الذي يوحي بذلك أن هذا العلم لا يجعل من المهتم به شاعرا كبيرا، و غاية ما يمكن أن يصل إليه المهتم هو أن يكون ناظما أو نظَّمًا في أقصى حدود الاهتمام. وذلك على الرغم مما قدمه العروض من هبة فكرية للدارسين حتى عدّوه من العلوم التي من المفروض أن يتعلمها المتعلم لعلوم القرآن وهي معروفة ..و لولاه لما رأينا هذه الأراجيز و المنظومات في مختلف العلوم تسهل حفظها و تيسّر تذكرها و تلح على فهمها ..و لنا في ذلك من الشواهد مما أجزل الله به على هذه الأمة مئات منظومات و ما أعقبها من شروح لها في مختلف العلوم، أثرت الفكر، و نوّرت العقول، و ساهمت في توضيح الطريق..
و من هنا فإن هذه الدوائر قد أثرت دورانا آخر في فلك الحضارة و الإبداع كما تفضلتم به.من خلال قولكم أستاذنا الكريم الدكتور مصطفى عراقي:
"بل دارت دورتها الخالدة في محيط واسع فسيح من العلم والحضارة والإبداع
وما تزال تدور في فلك الإبداع المتجدد "
من يقول إذن إن العروض غير نافع ؟
و مثل ذلك:من يقول عن العروض يجعل من متعلمه شاعرا عظيمًا ؟
ولعل هذا ما أراد أن يطرحه شاعرنا الموهوب يحي سليمان حين قال في مداخلته:
"أحيانا أشعر أن العروض اكتشاف سمج ولكني أحمد الله عليه لأني أعرف كيف تكون نظرةالشعراء لمن لا يعرفون العروض ويحبون الشعر وأحيانا".
و الأكيد أن شعور أخينا يحي سليمان هو شعور عام يتقاسمه معه الكثير من الشعراء عندما يشعرون بالملل من روتينية الأوزان التي قالت بها العرب شعرها و ضبطها الخليل في دوائره المعروفة نظرا لما تقدمه من روتينية في المسار الموسيقي و من حصر في مساحة البحث عن التجديد على الرغم من أن الخليل لم يغلق باب الاجتهاد بتاتا كما قلنا سابقا.. غير أن هذا الشعور له سبب آخر و هو إصرار الكثير من المهتمين بجوانبه على ما يشبه القدسية التي يضفونها على تخريجاته التي اختلف حواها الكثير من العلماء بعده، فقتلوا مسائله بحثا وتمحيصا و إعادة اكتشاف و إضافة..
في حين أن العروض الخليلي من المفروض أن يفهم على أنه اقتراح موسيقي لفترة زمنية ما لم يكن للخليل منه إلا حظ الاكتشاف. و إنما الشاعر هو المسؤول عن هذه البحور.. و الشاعر هو الذي أصبح مسؤولا فيما بعد عن اكتشاف عوالم موسيقية أخرى تضاف إليها .. و من هنا فإن الشاعر مجدد في كل عصر .. و الخليل مقعّد في كل عصر كذلك.. وهذا ما أشار إليه الشاعر القاص الحسيني طنطاوي في مداخلته القيمة مشكورا و أنا أوافقه فيه الرأي ، غير أنني أختلف معه حين قال :
"الغرب فعلا صهروا حضارتنا الطازجة كما سماها أستاذي الرابحي واستخرج كنوزها فعلا و أسس عليها حقا ولكن في نطاق الشعر واللغة لا ننسى ان معظم لغاتهم لا تمت للعروضوالتفعيلة بصلة اللهم إلا القليل مع اختلاف الكثيرين من هذا القليل إذا المعضلة فيأننا كأمة الضاد نمتلك هبة وهبها الله لنا في لغتنا الجميلة ما ابتدأها الخليل رحمهالله".
و وجه الخلاف يكمن في كون أن الحضارات الأخرى لها كذلك أعاريض و تفعيلات و بحور و أوزان تتوافق مع خصوصيات لغاتهم وحضاراتهم فهوميروس كتب الإلياذة موزونة مقفاة في 12000بيت من الشعر. و الشعر الفارسي موزون و الشعر الإنكليزي في عصر شكسبير موزون و الشعر الفرنسي موزون كذلك كعادة الشعر عند جميع الأمم.. هذه طبيعة الشعر. غير أن شعرهم انطلى عليه طابع التجديد في العصور الحديثة مثلما انطلى طابع التجديد الذي يرفضه الكثير على شعرنا في عصر قريب منّا جدا و لا زال يخيف المتحفظين من رِؤية روح العصر تسري في شعر الشاعر المعاصر مثلما سرت روح العصر في العصر العباسي في شعر شعرائه. و لعل هذا ما قصده أخونا الناقد الهمام الشاعر هشام مصطفى و هو يحاول أن يقدم نظرة عما يجب أن يكون عليه المبدع و هو يواجه عصره حينما قال:
"كيف أخرج من جلباب أبي ولمأتح للذات اتساع الرؤية ؟
أتراه الخوف على الذات أم من مروقها أم أنه ضيق البؤبؤ؟
كيف لواجف أن يبتكر أو ليد مرتعشة أن تبدع صورة ؟"

إن المفارقة التي أردت أن أطرحها تكمن في هذه الزاوية من وجهة نظر العروض. و ذلك لأن المقال يحمل وجهة نظر أخرى قد رأى فيها أخي جلال الصقر مشكورا مفارقة ،من وجهة نظره، بدت له غير منطقية ، و هي العلاقة الرابطة بين الحديث عن ضياع الأوطان و دوران الدوائر في ذهن الخليل من جهة، و الحديث عن المقارنة بين نونية ابن زيدون من جهة و قصيدة نونية من جهة ثانية. فمن باب المفارقة الأولى أقول له إن الإحساس العام هو أنني إذا شعرت و استطعت أن أكون أكثر قوة في تأصيل وجودي و كياني بالدفاع عن وطني و ديني و عرضي بالقصيدة النثرية من موقع كوني شاعرا، فانا سأتبنى القصيدة النثرية من الآن..لأنني أعتقد أن الشعر سلاح بإمكانه أن يساعد -في حدود ما أوتي له من إمكانية- على فهم أعم للوجود و العالم و الآخر الذي يريد أن يستولي على مخيالنا الحضاري. و لعل هذه الرؤية هي التي تحملنا إلى الحديث عن المفارقة الثانية و هي المقارنة بين قصيدة ابن زيدون من جهة و قصيدة أبي بكر الرندي من جهة ثانية. فالتفضيل كان من هذا الباب و ليس من الباب البلاغي المعروف. بمعنى أن قصيدة أبي بكر الرندي كانت أكثر إيغالا في تأصيل الذات العربية في الأندلس من قصيدة ابن زيدون حتى و كانت في غرض رثاء المدن و الاستعطاف و جاءت متأخرة.
و في الأخير أشكر لأخوتي هذا الزخم في النقاش وهذا الحرص على الوصول إلى حقيقة الأشياء وجوهرها عن طريق النقاش الجاد البناء.. و أن الإختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية.
وتحياتي للجميع و خالص امتناني لهم على هذه الفرصة الثمينة من النقاش الجاد..
و صلى الله على سيدنا محمد على آله و صحبه.
عبد القادر رابحي/08/05/2009