غير حقيقي












إهداء
إلى التي خذَلتْها عَثَراتي..
وكانت تنتظر وتستحق أفضل مما استطعتُه حقًا؛




(1 )


(1 ) أماسي باريس الخريفية

مما لا شكَ فيه أنَّه لفتَ انتباهَها بشدَّة.. إنَّ أكثر ما يلفت انتباهُها إليه أنَّه لم يكن فيه شيءٌ يلفت الانتباه.. لا يميزَه شيءٌ على الإطلاق. إنَّه شخصٌ باهتٌ تمامًا.
ما الذي أتى به إلى هنا حيث مؤتمر يضم نخبة النُخب من المجتمعات الممَثَّلة في ذلك المؤتمر العلمي الاجتماعي الهام؟! الرجالُ حولَها كانوا ما بين متأنقٍ يرتدي أفخرَ الثياب ويضع أثمنَ العطور.. رابطاتُ عُنق (سينييه) مميَّزة ومربوطة بعناية فائقة، وإطلالاتٌ قوية، وملامحٌ ينطق منها العزمُ والتصميم.. خُطوات معتدَّة أكثر من واثقة بكثير.. حتى هؤلاء الذين يُصرُّون على الظهور بمظهرٍ فوضوي غير مبال.. كانوا يرتدون بإهمالٍ شديد أفخر الماركات العالمية من الثياب بغير اعتناء أو ترتيب، فتأتي فوضويتُهم فنيةً على نحوٍ ما!
أمَّا هو فلم يكن سوى رجلٌ نظيف وخجول وربما منطوٍ على نفسه.. يجلس منعزلا لا يُثير حول نفسِه أيَ درجة من درجات التبجُح أو الضجيج!
عجيب أنْ يكونَ الباعثُ الوحيدُ للفت انتباهِها إليه أنَّه غيرُ مؤهَلٍ على الإطلاق للفت أدنى قدرٍ من الاهتمام!!
وعندما جاء دورُه في الحديث بدا لنا كتلميذٍ صغير يُجرِّب أمامنا لُعبةً ما.. يستخدم نفس تلك المفردات التي نعرفُها جميعًا ولا نُلقي لها أيَ بال، لكنَّ لُعبة التفكيك وإعادة التركيب التي يبدو أنَّه يجيدَها بمهارةٍ فائقة، أبهرتنا رغم يقينِنا بأنَّه يلهو!! لم يتعامل مع رموز (أ-ب-ج-د) كما نتعامل معها على أنَّها مُسلَّمات رمزية، تجاوزْنا شرحَ مدلولاتِها منذُ أزمنةَ المدارسِ الابتدائية.. رفض أنْ يُطلق عليها لفظة: (أبجد).. فهذه رمزية أُخرى مركَّبة لا يؤمن بكونها مسلَّمة تُؤخذ كما هي.. وكما يُخرج الساحر من قبَّعته عددًا من الأرانب الملونة الصغيرة، أخرج لنا من تلك الرموز عِدَّة مصطلحات تصلح دستورًا لتقدم البشرية.. (دأب-بجد-أجد-بدأ-أدب.. في مقابل: أجدب).. بدا لي لولا بدأ العالم دأبه بجد وإجاده وأدب لإيجاد الحلول لمشاكله المستعصية المعاصرة لأجدب جدبًا!!
بدا أنَّه ماهرٌ في كسر المسلَّمات وإعادة بناء مسلَّمات مختلفة تمامًا، يحصل عليها من ذات المادة الخام التي نصنع بها حيواتنا.. هو أيضًا يصنع حياة لكن بطريقةٍ مختلفة!
تبجحه وتماديه في هدم ما هو بديهي لا يحتاج إلى إثبات، وعرض فرضيات أخرى والبناء عليها، كأنَّها من ثوابت الحياة الفعلية.. لم يثرْ سخطنا على النحو المنتظر منا كنُخب لا تقبل زعزعة استقرار بديهياتها.. تعامل المجتمعون معه بنوع من التسلية، كأنَه جاء يعرض فقرة فنية بين فقرات برنامج مُتخم بالنقاشات الأكاديمية والأيديولوجية الملتهبة، تلطيفًا للأجواء المشحونة!!
فقرة فنية بعنوان المهرج، أو الساحر، أو حتى المشعوذ.. فالجميع يقبل في تلك الفقرات تقديم غرائب الفنون طالما تشيع جوًا من البهجة، أو تثير اندهاش الحاضرين، وهو أثار الدهشة، وأشاع البهجة، وبنى فنه الضاحك على أساس السخرية من عقولنا التي تُقدِّس ثوابت، أثبت لنا بحيله أنها أوهن من أن تصمد لشيء من دعابة أو تهكُّم خفي!
بالنسبة إليها لم يكن الأمر يشبه على أي نحو ما يمكن اعتباره فقرة ترويحية، أو حتى ترويجية تتخلل البرنامج الثقافي المكتظ.. هو قدَّم وجبة ثقافية دسمة وخطيرة.. بل قدَّم نماذج جد واقعية للحياة داخل الفردوس المفقود والمنشود.. وكأنَّ أحلام الصبا والبراءة للجالسين كادت أن تصبح حقائق ملموسة، لو أنَّهم آمنوا بها في الواقع أكثر قليلا مما فعلوا، أو أنَّهم وفق النظرية الاقتصادية تكلفة الفرصة الضائعة أو البديلة، أحسنوا الاختيارات أو الرهانات لحازوا على حياة فردوسية تنتمي إلى عالم آخر!
إنَّه في تقديرها فليسوف على نحوٍ ما أكثر من كونه فنَّان.. غير أنَّ انتمائه إلى فئة المجتمعين وحضوره كعضوٍ فعال في النقاشات الدائرة طوال المؤتمر، لا يدع مجالا للشك في أنَّه مهرج ضل السبيل إلى السيرك!
ستسأله لاحقًا -عندما تُتيح الفرصة-عن عمله.. سينظر إليها برهة، ترتسم على شفتيه ظل ابتسامة خجلى، قبل أن يجيب بتواضع: لدي حانوت لإعادة تأهيل (الأنتيك) والآثار التراثية لاستخدامها في الحياة..
تورَّطت أكثر من طبيعتها الشفَّافة في تصديقه.. عقَّبت فيما بدا أنَّه بشكل عرضي:
(الأنتيك تُستخدم أكثر ما تُستخدَم لأغراض الزينة)..
أبان وجهه عن رفضه، وربما عبَّرت ملامحه في سرعة خاطفة عن شيءٍ من استياء قال:
(لا أتعامل في الزينة)
تساءلت: ألا تحب الزينة.. أم لا تؤمن بها؟
أجاب بنبرة صادقة: أحب الزينة.. أؤمن بها.. فمن لا ينبهر بها؟! لكني لا أعمل بها في حانوتي.. هي خارج نطاق عملي فحسب..
شاغبته: هذا سبب بساطة مظهرك إذن؟
نظر إلى الأرض كمن جُرِح كبرياؤه، لكنَّه أجاب في اعتزاز: للبساطة أسباب كثيرة.. أنا أحب الزينة لكني أحب النظافة أكثر.
لم تشأ أن تقول له: لا تَعارض.. والحق أنَّه كان نظيفًا في كل شيء.. والحق أيضًا أنَّه كان متأنِّقًا في عطره!
فيبدو أنَّه الشيء الوحيد الذي يقتني الغالي منه!
قال بطريقة بدت عرضية وإن كانت تتجاوب بشكلٍ مذهل مع حديثها الداخلي كأنَّه يسمع ما لم تنطق به: أُحب الطعام الجيد أيضًا وأنفق أغلب دخلي عليه..
ابتسمت في حرج..
في مرة لاحقة ستسأله قبل أن تدرك أنَّها ربما تسرَّعت في السؤال: عندما سأحضر الى بلدكم ستسمح لي بزيارة حانوت الأنتيك الخاص بك؟
أشرقت ابتسامته حتى أدركت تهور سؤالها.. أجاب: لكن الحانوت الذي امتلكه ليس في بلدي..
كانت قد قررت عل إثر ابتسامته المشرقة ألا تتورط معه أكثر.. تتأنَّى في أسئلتها التالية.. غلبتها رغبة المعرفة الملحَّة، هذه المرة أيضًا سبقها السؤال: أين يقع حانوتك إذن؟
بنفس الابتسامة المشرقة أجاب: إنَّه معي أين ذهبت..
جاملته بابتسامة ساذجة.. لا تحب أن تبدو غرِّيرة، وتبغض الألغاز المحيرة، وتكره أن يحتفظ الرجل ببعض أسراره دونها، فالمرأة هي المخلوق الوحيد الجدير بالاحتفاظ ببعض أسراره.. تلك ميزة المرأة ونقيصة الرجل.. ومع ذلك ستدَّعي اللا مبالاة.. هو لا يريد أن يَصدُقها الحديث، ستُظهر عدم اكتراث وهي المتدَربة جيدًا على صد الفضول الأنثوي..
حييٌ هو أكثر من فكرتها عن الرجل الحيي أو الخجول.. هي أيضًا امرأةٌ شديدةُ الحياء.. لم يكن يمنعها حياؤها الجَم من الرد على مجاملاتِ رفاق العمل ردودًا لا تخلو من عُذوبة، فهي مخلوقة عذبة بطبيعتها.. كذلك لم تكن ردودُها تخلو من حزمٍ يمنع من التمادي.. لقَّبتها صويحباتُها بالطبيبة الحديدية..
تُرضيها تلك المسافة التي تحافظ عليها بينها وبين الجميع، فيما تحافظ على عذوبتِها التي لا تُنال في ذات الوقت!
تتورَّد وَجنتاها حياءً حتى تخجل من مظنَّة الناسِ أنَّها تُبالغ في وضع مساحيق الوجه الصارخة، وهي التي لم تحتاج إلى وضعها أبدًا! هو كذلك أُذناه تحمرَّان بشدة حتى تصيرانِ بلون الدم.. وترمش عيناه بسرعة، فلا يقوى على النظر في وجه محدِّثه، إذا أثار، أو أثارت حياءه أو غضبه!
رغم كل المسافات الفاصلة.. وتلك مسافات فرضتها الأقدار ولم تفرضها هي في معادلة العذوبة التي لا تُنال، والصد الذي لا يؤذي المشاعر! مسافات جغرافية تتجاوز بضع آلاف من الأميال.. ومسافات اجتماعية واقتصادية كبيرة.. فقط الفكر والثقافة بَدَوا متكافئين وإن لم يتماثلا.. فبينهما اختلاف يشي بتكاملٍ أكثر من مُحتَمَل!
أمَّا حديث الروح فلن يجرؤ على أن يصارحك به أحد.. حديث الروح إمَّا أن تحدِّثك به روحك فتسكبه فيك هكذا.. وإمَّا لن يتقبله عقلُك أبد الدهر.. حديث الروح هو شيء متجسد من عالمٍ مستحيل!
في قصتهما معًا هذا الحديث ذاته نسف المسافات بكافة أنواعها!
في الليالي التالية ستتوطد علاقتهما أكثر.. لم يكن يعني ذلك بالنسبة لأحدهما سوى معنً واحد مقدور لا مفر منه.. أمسيات باريس الخريفية يمكنها أن توفِّر كل شيء لمن يريد..
سقف الحرية العالي لم يكن يؤمِّنه خريف باريس فحسب.. هناك سقف أعلى توفِّره الغُربة.. وسقف ثالث تصنعه الفرصة.. كل هذه بالمناسبة ذرائع.. أعلى سقف ممكن للحرية تفرضه الرغبة وأمن المآلات..
ما الذي يمنع صابرة وعابد من التمتع الى أقصى حد بأماسي باريس الخريفية المعدودة قبل انتهاء مدة المؤتمر النُخبوي?!!
ما الذي يمنع أيديهما أن تمتد إلى كأس الكوكتيل المقدَّم عادة مع قارورة الماء كبديل للمياه الغازية؟!
عوضًا عن ذلك قضيا الليالي الممتدة كلٌ أمام شاشة حاسوبه المحمول في محادثة لا تنتهي، رغم أنَّ الذي يفصل بينهما مجرَّد عدد من الغرف في نفس الطابق من فندق الخمس نجوم الذي تسهر قاعات السمر فيه إلى قرب الصباح!
عرفته وعرفها.. في الحقيقة هي أرادت أن تعرفه ربما لانبهارها ببعض أفكاره وسلوكه.. وهي تؤمن أنَّه ما من رجل إلا ويشتهي معرفة سر عذوبتها والاقتراب من نبعها الرقراق حتى ولو كان عابد!