وسواس أيمن!

في الصباح يتصفّح الفيس بوك، وعناوين الصحف الإلكترونية، ويستعرِض رسائلَه على الخاص، بينما ينتظر فُطُوره الخفيف والشاي الأخضر بالنعناع. كصورة من أبيه الذي كان يتصفّح جريدة يومية قبل ذهابه إلى العمل. تستوقفه أخبار الوفيات.
يسترعى انتباهه نعيٌ طازج.
خبر وفاة أيمن.
إنّا لله و إنّا إليه راجعون.
يغلق عينيه متأمّلا، أيمن ربما كان أصغر منه بعامٍ أو عامين.
الموتُ ليسَ بالأقدمية.
لم يكن أبدًا وصفة طبية مخصّصة للمرضى.
الموتُ يختار بمشيئة لا نفهمُها، ولا نُدرك حكمتَها، ربما إمعانا في تذكيرنا بحتميته.
عشرات المشاهد تتدفّق على رأسه الآن تجمعه بأيمن.. آخرُها كان مؤلمًا حدث قبل بضعةِ أشهرٍ فحسب. إذ اعتاد أن يلتقي صديقيه المقربين بعد صلاة الجُمعة في مقهِ بوَسَط البلد.
هناك لمحَ أيمن يجلس مع صديق له.
تحرّكت الذكرياتُ المشتركة بحميمية عفوية مفاجئة.
في بعض لحظة تذكّر كم من الذكريات جمعتهما أيام الجامعة، وأنه لم يلتقِه منذ ربع قرن حيث سافر إلى الخارج.
جرفه الحنين فاندفع بنزقٍ نحوه ليعانقه.
اعتبر صرف نظر أيمن المرتبك عنه وإعراضه الظاهر بوجهه نوعًا من نسيانٍ أصاب ذاكرتَه، أو ربما لتغيّرِ ملامحِه عن أيامِ الشباب.
أصر على أن يُنعش ذاكرتَه وهو ما زال يتقدّم إليه.
لم ينتبه لمحاولةِ صديقيه لملمة طَيشِه، إلا على مشهد أيمن وهو يجذب صديقَه من ذراعِه ويعبران إلى الضفةِ الأخرى ليجلسا بعيدًا عن فعلِه الأخرق.
تحوّلت دهشته إلى أسى وصديقُه عادل يهمسُ له:
هكذا هو أيمن لديه وِسواس قهري من مخالطة رفاق الماضي!
حتى مجرد المصافحة؟
بل مجرد الاقتراب المكاني كما ترى.
ظلت تلك الحادثة تؤرّقه أياما، فلم يكن في ماضيهم جميعا كرفاق العمر إلا ما يعتزّون به. لم يصنعوا فيه إلا حِلما مشترَكا جميلا حاولوا تأويله في وطنِ المستقبل!
لقد صاروا اليوم في وطن المستقبل.
يتذكّر عندما كانوا يتندّرون برباطةِ جأش أيمن وبرودة أعصابه التي تصل حد اللا مبالاة. يأمره المحقق بغطرسة أن ينسحب من خوض انتخابات اتحاد طلاب الجامعة.. كان التحقيقُ يجري في ظروفٍ بالغةِ الحرج، في منتصف الليل، في سراديب لا يعرف بوجودِها إلا القائمون عليها، يسكن على أطرافِها الزبانية.
أجاب أيمن مستفهما: حضرتك لا تريديني أن أخوض الانتخابات؟
أومأ المحقق بصلف.. فرد عليه أيمن ببرودٍ قاتل:
إذن ألغِ الانتخابات وأعلن فوز القائمة المختارة بالتزكية. لو فعلت لن أعارضك.
لم يتطرّق التندر إلى عدد الصفعات التي تلت مقولَته تلك، لكنّ أيمن نجحَ في انتخابات اتحاد الطلاب. واستمر طويلا في الحِلم وتأويله.
غادر جيلُنا الماضي إلى المستقبل، وغادر أيمن حتى المستقبل إلى عالمِ ما بعد الموت، فهل تُراه ما زال خائفا؟
أم أنّ الموت يقتل أعتى الوساوس ولو كانت قهرية؟!